محمد العزير
بعد الانتصار الأميركي البليغ في الحرب العالمية الثانية وعلى كافة مسارح المواجهة من المحيط الهادئ إلى أوروبا وصولاً إلى الشرق الأوسط، وعلى الرغم من الانتصار السوفياتي الذي توّجه الجنرال جوكوف بتفجير رمز الرايخ الثالث على سطح مبنى الزعامة في برلين، تبوأت الولايات المتحدة التي لم تخض أي معركة على أرضها، مركز الصدارة الأول بلا منازع للعالم الغربي الذي كان مهيمناً على العالم كله حتى تاريخه.
بين ذلك التاريخ وبين أول هزيمة عسكرية محققة لأميركا في فيتنام عام 1975، كانت واشنطن بفضل نخبها النشيطة واقتصادها المتعملق وتفوقها التقني والعلمي قادرة على امتصاص الفضيحة في سايغون وتحويلها إلى صفعة يمكن التغاضي عنها بالاقتصاد والقروض والثقافة الشعبية. كانت «كوكاكولا» أشهر من الفيتكونغ، وكانت «هوليوود» أشهر من هانوي، وكان الدولار أضمن من الذهب.
بين برلين وهانوي رتبت واشنطن أمورها كما ينبغي لدولة عظمى. ورثت ما تريد وهو كثير وملموس، وأنفت عما لا تريد وهو رمزي وإعلامي.
بعد الحرب العالمية الثانية كانت أميركا تمسك كمبيالات مستحقة على بريطانيا العظمى وفرنسا وشمال أوروبا ودول شرق آسيا التواقة إلى الاستقلال من الاستعمار الإنكليزي البارد، وفيما كانت قوات الجنرالات باتن وآيزنهاور وماك آرثر تُطبِق على قوات المحور، وكان مشروع مانهاتن (لإنتاج القنبلة النووية الأولى) في خلاصاته العملية، كان الأكاديميون والاقتصاديون والمشرعون يخططون لليوم التالي، يوم ترث أميركا بقية أوروبا بعدما ساعدها نابليون بونابرت بحماقاته العنترية في تدمير الإرث الإسباني في العالم الجديد قبل ذلك بقرن ونصف.
قبيل الانتصار استبقت أميركا، العالم المديون لها، بمؤتمر «بريتون وودز» Bretton Woods الذي استبدل الجنيه الإسترليني بالدولار الأميركي كمقياس لسعر الذهب الذي كان الأساس في تسعير العملات العالمية أو ما يعرف باسم التغطية الذهبية، (بمشاركة أربعين دولة من دول الحلفاء المعادين للنازية). ولم يقتصر المؤتمر على ذلك بل أسس لهيمنة أميركية كاملة على العالم غير المنضوي تحت الراية الستالينية (الدموية المرعبة). وفيما كانت التجربة الاشتراكية البائسة تقتبس عن التجربة الرأسمالية، أسوأ صفاتها؛ القمع والبيروقراطية وصرف النفوذ، كانت « الفرادة» الأميركية تنمو وتزدهر من اللبان (العلكة) إلى حرية المبادرة الفردية! لذلك، وفي عز المعضلة الفيتنامية التي كانت في مقدمة الاهتمامات الشعبية، باعتبار أن معظم العسكر الأميركي من التجنيد الإجباري، بادر رئيس «فضيحة ووترغيت» ريتشارد نيكسون إلى التخلي عن اتفاقيات «بريتون وودز» من طرف واحد وأعلن بعد اجتماعات عقدها يوم الجمعة 13 آب (أغسطس) 1971 التخلي عن ترتيبات «بريتون وودز» وتوابعها ليجعل الدولار الأميركي مرجع التسعير الدولي لكل شيء، والعملة الوحيدة المقبولة عالمياً لكل الصفقات، بمعزل عن الذهب.
في اقتصاد يتصاعد بطريقة عجائبية كهذه، من يقدر على الاعتراض؟ كان سهلاً ابتلاع الهزيمة: لم تكن هزيمة في الأصل بل كانت «خطأ بيروقراطيين لم يحسنوا تدبير الأمور»… في تلك الحقبة بالذات، وفي مرحلة تاريخية مصيرية كانت كفيلة بتغيير الكثير، إن لم يكن كل العالم، ابتدعت النخب الأميركية –ولأسباب عملية ومنطقية ومصلحية– نظرية «الاستقرار».
والاستقرار يعني وجود سلطة حاسمة وقادرة على ضبط الشؤون اليومية في الأقطار المختلفة. لا فرق في ذلك بين عبدالناصر في مصر أو ماركوس في الفليبين أو سوهارتو أو سوكارنو أو حسني الزعيم أو هواري بومدين. أميركا لا تريد الاهتمام بالكون كله في هذه اللحظة، ولا تريد أيضاً تصدير أو نشر أفكارها المنصوص عليها في إعلان الاستقلال والدستور… بل تريد «الاستقرار». فلا بأس بفرانكو في إسبانيا، ولا مانع من حكم عسكري في اليونان التي تعادي تركيا بالفطرة، ولا مشكلة في حكم العسكر في أنقرة، ولا مبرر للوقوف ضد حكم فاشي في الأرجنتين أو مساندة فيرموزا ما دامت ضد الصين: أما أميركا الجنوبية التي أعلنها الرئيس جيمس مونرو أوائل القرن التاسع عشر «حديقة خلفية» للولايات المتحدة، فكان عليها أن تتعامل مع مفاعيل قرارت وزراء الخارجية في واشنطن منذ القرن الثامن عشر إلى هنري كيسنجر في القرن العشرين.
ومع نهاية الحرب الباردة كانت أميركا استخدمت في مجلس الأمن الدولي حق النقض «الفيتو» حوالي 100 مرة جلّها مناصفةً بين حماية نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وحماية السلوك العدواني الإجرامي الصهيوني على أرض فلسطين وضد دول الجوار ضاربة بعرض الحائط مشاعر ملايين الأفارقة والعرب وكل الأحرار وأصحاب الضمير في العالم.
كانت معاهدها العسكرية تتخصص في تدريب وتأهيل ضباط الأمن والمخابرات في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط وكانت تخص أميركا الجنوبية بكلية متكاملة تحمل اسم The School of the Americas في بنما، قبل أن تنقلها بعد سنتين (1946) إلى ولاية جورجيا لتخريج رموز القمع والتعذيب العاملين في أنظمة الحكومات العسكرية التي اجتاحت القارة الجنوبية في موجة انقلابات أشرفت عليها وموّلتها المخابرات المركزية. (يقدر عدد الضباط الذين دربتهم المخابرات الأميركية في الكلية بحوالي ستين ألفاً).
تحت ذريعة مكافحة المد الشيوعي التي كانت المبرر المعلن لحربي كوريا وفيتنام (بالمناسبة أخذت أميركا بطريقها في حرب فيتنام الاستقرار والأمن في كل من لاوس وكمبوديا، وتسببت بمقتل أكثر من 2.5 مليون فيتنامي وعشرات الآلاف في البلدين المجاورين وإشاعة الدمار والخراب ونزوح سكاني وتحولات ديمغرافية هائلة… أما خسائر كوريا فكانت موازية تقريباً فيما خسرت أميركا نحو 100 الف جندي في الحربين). دخلت نزعات القمع إلى قلب الولايات المتحدة خلال حقبة المكارثية نسبة إلى السناتور الجمهوري جوزيف مكارثي الذي تحول إلى بوق زاعق للنخب فائضة القوة، وترواح ضحاياها بين مفكرين وأكاديميين وفنانين ونقابيين. خلال تلك الحقبة صعد نجم رونالد ريغان، الممثل غير اللامع، الذي تحول إلى مخبر للوشاية بزملائه الليبراليين في هوليوود. انتهى مكارثي في مصح عقلي بينما وصل ريغان إلى البيت الأبيض ممهداً الطريق أمام وصول اليمين الديني الأصولي الأبيض إلى البيت الأبيض، من جورج بوش الأب إلى الابن إلى دونالد ترامب.
يعرف القارئ العربي والعربي الأميركي مآثر واشنطن السابغة في الشرق الأوسط ومحيطه؛ من الدعم الأعمى لإسرائيل والتجاهل الأعمى للعرب كشعوب وآمال ومصالح، إلى اغتيال محمد مصدق في طهران وإعادة الشاه إلى سدة الشاهنشاهية في طهران على أنقاض ديمقراطية واعدة، مقابل التساهل إزاء الشاه نفسه بمواجهة الإسلام السياسي الذي استبدل القمع الحداثي بثيوقراطية قروسطية لا تزال قابلة للتفاوض، ولا يزال مسموحاً لها بالتوسع والتمدد وعقد الصفقات تحت الطاولة أو جنبها من «إيران غيت» إلى صفقة الديزل الصغيرة قبل أسابيع قليلة وما بينهما من تبادل أسرى مثل تاج الدين ونزار زكا وعامر الفاخوري. ومن انقلابات العسكر في تركيا للحفاظ على قاعدة أنجرليك في أضنة، ومساندة حكم العسكر في اليونان وتأجيج الصراعات الأخوية العربية بين المغرب والجزائر وتونس في شمال أفريقيا، وصولاً
إلى العراق الذي كان فيه صدّام طفل أميركا المدلل قبل أن يصبح عدوّها المبين وفي الحالتين دفع العراق ودول الجوار الثمن ملايين القتلى والجرحى، بعدما كانت المخابرات المركزية قد تحولت إلى مركز فقهي إسلامي لمحاربة الشيوعية عموماً وقتال الاتحاد السوفياتي بالوكالة: وكالة ضياء الحق، قاتل علي بوتو، والذي أسس المدارس الدينية التي خرّجت طالبان، ووكالة «المجاهد» أسامة بن لادن الذي عندما شب عن الطوق نفذ هجمات إرهابية غير مسبوقة على أميركا نفسها، التي اتخذت من تلك الاعتداءات ذريعة لتعميم المزيد من القمع، أنظمةً وسلوكاً.
Leave a Reply