محمد العزير
لم يكن خذلان أميركا لـ«الربيع العربي» الذي انطلق عام 2011، أسوأ سلوكيات واشنطن بعد انتهاء الحرب الباردة والتخلص من «البعبع الشيوعي»، الأسوأ كان اختراع «البعبع الإسلامي» الذي صنعت بأيديها، النسخة الجديدة منه، بكافة تلاوينها.
لم يكن الشباب العربي الثائر، الذي استعاد ميزة غابت عن الوجوه العربية طويلاً، وهي البسمة، بحاجة إلى مساعدة أميركا. كانوا فقط بحاجة إلى عدم تدخلها. كان الرئيس يومها، باراك حسين أوباما، المنتشي بفوزه الأسطوري كأول رئيس أسود البشرة للولايات المتحدة، (لو استعدنا مجدداً التعابير الماركسية–اللينينة) مأخوذاً بالطفولية اليسارية التي جعلته يلقي خطابات باهرة في القاهرة وبرلين وإسطنبول، دون أن يعرف حق المعرفة نفوذ «الدولة العميقة»، ليس بمعناها الرمزي، لكن بمعناها العملاني كأداة لتنفيذ الإرادة السياسية الرسمية.
لا تقوم السياسات بالنوايا مهما حسنت، ولا تنفّذ بالأخلاق مهما تسامت.
ارتكب أوباما الآتي من الجو الأكاديمي النظري الصرف، كأستاذ للقانون الدستوري في أرقى جامعات أميركا، الغلطة ذاتها التي ارتكبها الرئيس «المؤمن» عن حق، جيمي كارتر الذي منع في عهده، الذي خلف فضيحة ريتشارد نيكسون (ووترغيت)، سلوكيات أسوأ وزير خارجية أميركي في التاريخ، هنري كيسينجر. لكن التخلي عن سياسة رديئة دون وضع سياسة جديدة يؤدي إلى الفوضى. فقد كف كارتر يد الـ«سي آي أي» في السياسة الخارجية ومنع (قانوناً) اغتيال رؤساء دول أجنبية، كما سمح بالتخلي عن بعض الحلفاء الدمويين في أوروبا وجنوب أميركا والشرق الأوسط (باستثناء إسرائيل التي يؤمن كارتر بأن وجودها تحقيق لنبوءة توراتية تمهد لعودة المسيح).
ازدهرت في عهده ما وصفه الأكاديمي اليميني الفظ صموئيل هاننتغتون بالموجة الديمقراطية الثالثة، التي أدبّت الذعر في أوساط النخب الأميركية التي سارعت إلى النكوص إلى ما تعودته من «استقرار»، فجاء إلى السلطة اليميني المحافظ رونالد ريغان الذي استعاد خارجياً أكثر من «مبدأ مونرو» (الحدائق الخلفية لأميركا) وباشر داخلياً تطبيق «الاستراتيجية الجنوبية»، التي بشر بها ووضع أسسها السناتور الجمهوري باري غولدواتر، والتي تتلخص في أن على البيض ذوي الأصول الأوروبية، الحفاظ على نفوذهم وتفوقهم، ولو على حساب مبادئ مؤسس الحزب الجمهوري أبراهام لينكولن. وأقصر طريق إلى ذلك، استثمار المشاعر والورثة العنصرية في الولايات الجنوبية التي خسرت الحرب الأهلية لتكون المعين الأكبر للحزب الجمهوري.
لم يردع المحافظين دون تحقيق ذلك، أي وازع أخلاقي أو دستوري. بدأوا مع ريغان حرب «كسر عظم»، كانوا يحتاجون فيها إلى ولاء الأثرياء، خصوصاً ورثة الثروات المكدسة على حساب العبودية: بيضاً، بروتستانت، ويهوداً وكاثوليك ومهاجرين جدد ممن أصابوا المال والنفوذ.
كانت تلك البداية الفعلية لأميركا المنقسمة على نفسها؛ أميركا الامتيازات والنفوذ والثروات والسلطة، مقابل أميركا الرؤية والأمل والدستور وسيادة القانون. الملفت أن لا رئيس أميركياً جمهورياً بعد آيزنهاور الذي لم يكن حزبياً وانما انتخب لكونه بطل الحرب العالمية الثانية، لم يتورط في فضائح دستورية وقانونية مشينة. «ووترغيت» لنيكسون، «إيران كونترا غيت» لريغان، إلى رعاية صدام حسين ثم التخلي عنه في حرب الخليج وتعزيز صورة «المجاهدين» لبوش الأب، وصولاً إلى الكذبة الكبرى لبوش الابن الذي غزا العراق ودمره وأشاع الفوضى في الشرق الأوسط كله دون العثور على ما ادعاه من أسلحة دمار شامل عراقية بحوزة صدام حسين الذي كان تحت نظرهم وإرادتهم ورعايتهم وقد استخدم الأسلحة الكيمياوية التي زودته بها أميركا ضد شعبه وضد القوات الإيرانية… وبعدها ثالثة الأثافي، دونالد ترامب، «هتلر بلا شنب» أخرج أفاعي العنصرية من جحورها ولا يزال حتى اليوم يتحكم بالنصف اليميني من أميركا التي تقوم على نظام الحزبين.
هل هذا قدر أميركا؟ بشيء من التبسيط وكثير من التفاؤل يمكن القول «لا». مكارثي انتهى في مصحة عقلية، نيكسون اضطر للاستقالة، ريغان ادعى الخرف لينفذ بريشه، وبوش الأب أسقطه كلينتون الماجن، وجورج بوش الإبن سرّع في انتخاب أول رئيس أسود لأميركا، أما ترامب الفاشي، فلم يتمكن من تجديد ولايته.
كانت أميركا منذ ظهورها على المسرح الدولي محظوظة بأمرين؛ الأول أنها واجهت أعداءً أغبياء، حيث نالت استقلالها في عهد الملك البريطاني المجنون، جورج الثالث، الذي كان أضحوكة البلاط والدولة والعالم، وتمدد نفوذها المتسارع بفضل جنون عظمة نابليون (النسخة الأصلية لهتلر) الذي أراد حكم العالم كله فاضطر إلى بيع مستعمراته في العالم الجديد مقابل حفنة من الدولارات، وكانت صفقة لويزيانا التي اشترت فيها أميركا الحديثة الولادة فدان الأرض باقل من دولار واحد، فيما كان تدمير نابليون للنفوذ الإسباني في أميركا، وهو كان النفوذ الأكبر والأوسع والأغنى، الطريق الأسهل لفرض السيطرة الأنكلوساكسونية على العالم الجديد. وفي القرن العشرين واجهت أميركا نوعين من الحكم الاستبدادي: الفاشية المجرمة في أوروبا الغربية، ممثلة بموسوليني وهتلر، والستالينية المجرمة في روسيا التي قتلت من شعبها أكثر ممن قتلهم اعداؤها مجتمعين.
تختلف الخريطة السياسية الأميركية اليوم كثيراً عما سبق حتى قبل عقود قليلة. لم تعد الأصوات الليبرالية والتقدمية والمنفتحة (التي لا تؤمن بالفرادة الأميركية كاحتكار ولا ترى العالم بعين «اليانكي») على هامش الحياة العامة، بل أصبحت في صلب أروقة صنع القرار من المجالس التشريعية في الولايات إلى الكونغرس نفسه بمجلسي الشيوخ والنواب في واشنطن. لم تعد تلك الشريحة مقتصرة على الملونين وبعض الأكاديميين والصحفيين، بل أصبحت من مكونات مراكز الأبحاث والجامعات والمجتمع المدني… والأهم كحركة شعبية وازنة تحاول بجدية وكفاءة تعديل السياسة «الإمبريالية» برمتها منطلقة من الداخل المقسوم إلى الخارج المأزوم. تجاوزت هذه الشريحة النشيطة مقولات ومزاجيات «اليسار المحترف» وجلبت إلى صفوفها فئات كبيرة من النقابيين والحقوقيين، والأهم فئات الشباب التي لم تعد تنجرف وراء الهتافات الوطنية والأناشيد الحماسية وتريد لأميركا أن تكون دولة طبيعية تؤثر في العالم بعلومها ودستورها وثقافتها وانفتاحها ورخائها، ليس بدبلوماسية البوارج ولا بالاتكال على أنظمة قمعية أو صفقات سرية أو مواريث استعمارية.
المتابع للسياسة الأميركية عن كثب يلاحظ أنه في السنوات العشر الأخيرة، ورغم كل عوامل التعبئة والتجييش التي اعتمدتها الأوساط الأميركية التواقة إلى ديمومة هيمنتها على العالم، أصبح في الكونغرس أعضاء يجاهرون برفضهم للسياسة الأميركية التقليدية تجاه العالم. للمرة الأولى في تاريخ المؤسسات الأميركية ترتفع أصوات تشريعية رافضة للسلوك الإسرائيلي العنصري والدموي على أرض فلسطين، ومن أصحاب تلك المواقف يهود أميركيون، فيما تتبوأ المؤسسات اليهودية الأميركية مركز الصدارة في الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، وعلى المنقلب الآخر لم يعد المهاجرون الكوبيون مهجوسين بكابوس كاسترو ولم تعد الاستثمارات القديمة في «الأقليات المسيحية» و«المنشقين» عن المعسكر الاشتراكي ومدعي اللجوء بحثاً عن «حرية الرأي» تفي بالغرض المطلوب. في المقابل لم يعد غباء «الأعداء» قابلاً للصرف. في صورة كهذه لا بد لقبس من التفاؤل أن يخترق عتمة الواقع الذي جعله عهد ترامب أكثر سوداوية.
Leave a Reply