ليس من أراد الحق فأخطأ، كمن أراد الباطل فأصاب. قد تنطبق هذه المقولة على المقابلة المتلفزة التي أجرتها محطة «فوكس نيوز»، يوم الأحد 5 شباط (فبراير)، مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي أفحم خلالها المذيع بيل أورايلي المستهجن لمشاعر الاحترام التي يكنّها سيد البيت الأبيض للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بدعوى أنه «قاتل». جواب ترامب كان مثيراً وصاعقاً، حيث قال: يوجد (في بلادنا) الكثير من القتلة أيضاً. لدينا الكثيرين منهم.. هل تظن أن بلادنا بريئة جداً؟
مذيع «فوكس نيوز» الأشهر لم يحرْ جواباً. ربما لأن الإجابة معروفة ويدركها جميع الأميركيين، وهي أن أميركا ليست بريئة فعلاً.
صحيح أن ترامب كان محقاً فيما قال، ولكن قراره التنفيذي الجائر ضد الهجرة، والذي يحظر فيه مؤقتاً رعايا سبع دول ذات أغلبية إسلامية من دخول الولايات المتحدة، لا يجعله أكثر براءة من أسلافه، بل جاء تكريساً للسياسات الظالمة بحق الشعوب الأخرى وتحديداً العربية والإسلامية.
الدول السبع التي حظرها ترامب مؤقتاً -وهي سوريا واليمن والعراق والسودان والصومال وليبيا وإيران- هي نفسها التي توالت الإدارات الأميركية المتعاقبة على تفتيتها وتدميرها وقتل شعوبها وتشريدهم في زوايا الأرض الأربع، كشعوب كثيرة أخرى عانت الأمرّين من السياسة الخارجية الأميركية وأهدافها التوسعية.
تلك البلدان تعرضت خلال السنوات والعقود الماضية لقصف الطائرات الأميركية وقنابلها وصواريخها التي أحدثت دماراً شاملاً أو جزئياً وأمعنت قتلاً وتهجيراً لمئات الآلاف من البشر دون مبرر.. والآن يأتي ترامب ليقول للملايين من سكان تلك الدول إنهم خطيرون على الأمن القومي الأميركي وغير مرحب بهم في أميركا تحت عناوين محاربة الإسلام الراديكالي وحماية الأميركيين!
ومن باب التذكير السريع، نستعرض فيما يلي وبشكل موجز التدخلات الأميركية في الشؤون الداخلية لتلك البلدان:
إيران
في عام 1953، قادت «وكالة الاستخبارات الأميركية» (سي آي أي) انقلاباً على الحكومة الإيرانية بزعامة محمد مصدق، فيما بات يُعرف بـ«عملية أجاكس» التي أعادت الشاه محمد رضا بهلوي إلى العرش بعد فراره إلى إيطاليا. وقد كشفت الـ«سي آي أي» عام 2013 بأن ضابط الاستخبارات الأميركي كرميت روزفلت كان القائد الحقيقي للانقلاب وأنه عمل على تسيير تظاهرات معادية لمصدق في وسائل الإعلام الإيرانية والدولية، كما أوعز لزعران طهران بالسيطرة على الشارع وإطلاق الهتافات التي تحط من هيبة رئيس الحكومة، وذلك بالتوزاي مع اغتيال القيادات التاريخية للجبهة الوطنية المناوئة لحكم الشاه.
وعندما أطاحت الثورة الإسلامية بحكم رضا بهلوي عام 1979، سارعت الولايات المتحدة إلى دعم نظام الرئيس العراقي صدام حسين في حربه على إيران التي استمرت حتى عام 1989 وخلفت مئات آلاف الضحايا في كلا البلدين.
العراق
بعد دخول العراق إلى الكويت عام 1990 بضوء أخضر أميركي، قادت الولايات المتحدة حصاراً دولياً عليه استمر ثلاثة عشر عاماً عانى خلالها العراقيون الأمرّين جراء تلك العقوبات التي حرمتهم من الغذاء والدواء، وأدت إلى وفاة ما يزيد عن مليون طفل نتيجة الجوع ونقص الرعاية الطبية.
وقد فرضت تلك العقوبات على بلاد الرافدين عزلة شديدة عن العالم، سياسياً ودبلوماسياً واقتصادياً، حتى أصبح العراق من أكثر دول المنطقة تأخراً، خاصة في أعقاب حرب الخليج الثانية، كما دمرت الولايات المتحدة معظم البنى التحتية من مصانع ومصاف ومحطات توليد الطاقة وتدمير شبكات الكهرباء والمياه والمجاري، والتي عادت بالعراق إلى حقبة «ما قبل الصناعة» بحسب تعبير وزير الخارجية الأميركي حينها جيمس بيكر.
وفي العام 1998 وقع الرئيس بيل كلينتون على «قانون تحرير العراق» داعياً إلى تغيير النظام العراقي، كما قادت الولايات المتحدة ضربة عسكرية في العام نفسه عملية عسكرية بإسم «عملية ثعلب الصحراء».
وفي 2003 جاء الغزو غير القانوني واللاأخلاقي للعراق رغم المعارضة الدولية والشعبية العارمة التي لم تلق آذاناً صاغية خارج جدران البيت الأبيض، فدمر ما تبقى من العراق بحجة التخلص من أسلحة الدمار الشامل المزعومة وإنهاء حكم نظام صدام حسين الذي اتهم زوراً بالتنسيق مع تنظيم القاعدة الإرهابي. وبدل أن تعم الديمقراطية بلاد الرافدين، كما وعدنا جورج بوش، حل الفساد والفوضى والإرهاب مكان الديكتاتورية.
الحقائق كلها أثبتت زيف الادعاءات التي سيقت لتبرير تدمير العراق. أما الشعب الذي لا يزال يعاني حتى اليوم من نتائج الغزو وتمكين «داعش»، فقد منعه ترامب من زيارة الولايات المتحدة، فيما يمارس جورج دبليو بوش (القاتل) هواية الرسم بمقر إقامته في دالاس.
ليبيا
في عام 1986 قامت القوات الجوية والبحرية الأميركية بقصف العاصمة الليبية طرابلس الغرب رداً على تفجير عملاء ليبيين لملهى ليلي في برلين الغربية كان يرتاده جنود أميركيون.
ومنذ عام 2011 تصاعد التدخل العسكري الأميركي والأوروبي في ليبيا ليشكل حلقة إضافية في سلسلة حروب أوباما الطائشة التي شنت دون تفويض من الكونغرس الأميركي.
أطيح بنظام الزعيم الليبي السابق معمر القذافي، وتُركت ليبيا الى مصيرها، تنهشها الميليشيات المتناحرة تحت أنظار حلف «الناتو» وبطش الجماعات المتشددة والإرهابية.
والمفارقة هنا ان الرئيس السابق باراك أوباما قال خلال مقابلة مع قناة «فوكس نيوز» -العام الماضي- إن التدخل العسكري في ليبيا كان «أسوأ خطأ» ارتكبه!
كما أصبحت مدينة بنغازي الليبية رمزاً لأكاذيب وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون على خلفية تعاملها مع حادثة مقتل السفير الأميركي كريس ستيفنسون.
سوريا
لقد بدأت «وكالة الاستخبارات الأميركية» بتوجيه من الرئيس السابق باراك أوباما بتسليح الثوار السوريين خلال المراحل الأولى من اندلاع الأزمة السورية التي بدأت شرارتها في 2011. وفي البداية كانت الـ«سي آي أي» تقدم ما أسمته «دعماً غير فتاك» إلى ما من كانت تسميهم ثواراً «معتدلين» مثل «الجيش السوري الحر»، ولكنها سرعان ما بدأت في تدريب وتقديم الأموال، والدعم الاستخباراتي لفصائل مسلحة أخرى. فيما عولت إدارة أوباما بكل صلافة على «داعش» للضغط على الدولة السورية وإسقاطها، وفق وزير الخارجية جون كيري نفسه.
وفي أفظع دليل على مدى الانخراط الأميركي في دعم المنظمات الإرهابية واستغلالها سياسياً، قامت مقاتلات أميركية شهر أيلول الماضي بقصف مواقع للجيش السوري في مدينة دير الزور شرقي سوريا مما أسفر عن سقوط 62 جنديا من القوات السورية، بالتزامن مع هجوم بري مكّن «داعش» من السيطرة على جبل ثردة المطل على مطار المدينة، مع الإشارة إلى أن الغارات الأميركية تلك لم تكن الأولى من نوعها في استهداف الجيش السوري في محاولة لقلب الموازين لصالح التنظيمات المسلحة.
اليمن
منذ 21 شهراً يستمر تحالف عدواني بقيادة العربية السعودية ودعم أميركي بقصف اليمن بلا هوادة، مستخدماً أسلحة من صنع أميركي في الحرب التي تسببت بمقتل وإصابة عشرات آلاف اليمنيين، فيما تشير الكثير من التقارير إلى أن أعداداً كبيرة من القتلى المدنيين سقطوا عن سابق تصميم من قبل السعودية، وأنها لم تكن أخطاء غير متعمدة، في حين غضت الإدارة الأميركية الطرف عن تلك الهجمات كما تستمر بغض الطرف عن مصدر الإرهاب الفكري والمادي.
وتؤكد المنظمات الحقوقية على أن التحالف العسكري الذي تقوده المملكة العربية السعودية كان عديم الرحمة في قصفه للمدنيين في جميع أنحاء اليمن، دون أي اكتراث بالحياة الإنسانية ومستقبل اليمن الذي كان يوماً ما يمناً سعيداً.
السودان
في عام 1998 قامت الولايات المتحدة بقصف السودان بصواريخ كروز رداً على تفجيرات السفارتين الأميركيتين في كينيا وتنزانيا، وأسفر القصف الصاروخي عن مقتل 224 شخصاً وجرح 5000 آخرين.
ولم تستثن البوارج الحربية الأميركية في البحر الأحمر قصف المنشآت المدنية التي كان بينها «مصنع الشفاء للأدوية» بدعوى أنه يساعد زعيم القاعدة السابق أسامة بن لادن في تصنيع الأسلحة الكيماوية. وفي وقت لاحق اعترف الأميركيون أن «الأدلة التي دفعت الرئيس كلينتون للأمر بقصف مصنع الشفاء لم تكن موثوقاً بها كما تم تصويرها في البداية، ولا علاقة له بأسامة بن لادن».
الصومال
الصومال، التي جعلتها السياسة الأميركية مثالاً مبكراً للفوضى، هي بدورها واحدة من أنشط ساحات حرب الطائرات الأميركية بدون طيار (درونز) منذ العام 2006، عندما تعرضت للغزو من قبل القوات الإثيوبية المدعومة من الولايات المتحدة، والتي شكلت على مدار السنين الماضية تهديداً مستمراً لسلامة مواطنيه ووحدة أراضيه واستقلاله السياسي.
الخلاصة: مما سبق، يظهر جلياً أن الرئيس دونالد ترامب لم يكن مبالغاً حين وصف أسلافه في البيت الأبيض بأنهم «قتلة»، ولكن المفارقة المرة -في هذا السياق- أن الرئيس العتيد لا يدرك أنه بسياساته المتحيزة ضد العرب والمسلمين يقدّم (عن قصد أو غير قصد) أوراق اعتماده للانضمام إلى «نادي القتلة الأميركي»!
Leave a Reply