نبيل هيثم – «صدى الوطن»
«تغيير في التكتيك وليس في المهمة».
لعلّ عبارة نائب الرئيس الأميركي مايك بنس في مؤتمر ميونخ للأمن هي من العبارات القليلة ذات المصداقية التي تصدر يومياً من واشنطن، بشأن الانسحاب الأميركي من سوريا، في ظل ضباب كثيف يحوم حول الخيارات المترتبة على القرار المفاجئ الذي اتخذه دونالد ترامب في هذا الاتجاه، والذي ما زال يقابل بالكثير من التشكيك.
حتى الآن، لم ترصد دوائر الاستخبارات الدولية والمحلية أيّة مؤشرات بشأن الانسحاب المعلن، بحسب ما تؤكد التسريبات اليومية التي تنشرها الوسائل الإعلامية، بما في ذلك الأميركية، التي يحتار محللوها في مقاربة السيناريوهات المحتملة لقرار ترامب، الذي أربك حتى أقرب مساعديه في الدائرة الضيقة المحيطة به في البيت الأبيض.
في قمة سوتشي الأخيرة، كان ثمة توافق واضح بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيريه التركي رجب طيب أردوغان والإيراني حسن روحاني على التشكيك في قرار الانسحاب الأميركي، برغم تأكيدهم أن خطوة من هذا القبيل ستكون «نقطة إيجابية تساعد في استقرار الوضع».
على هذا الأساس، أكد بوتين أن روسيا لم تشهد أية تغيرات كبيرة تشير إلى الانسحاب الأميركي من سوريا، بعد أن أمر الرئيس الأميركي دونالد ترامب بذلك، واضعاً هذا الإرباك في إطار التجاذبات الداخلية الأميركية، بقوله إن ترامب يحاول الوفاء بوعوده الانتخابية، من خلال سحب القوات، لكنه غير قادر دائماً على الوفاء بتعهداته، وهو ما جعل أردوغان يرى أن «قرار الانسحاب ضبابي»، وأن توقيته «لا يزال غير واضح».
ويوم الخميس الماضي، أعلنت وكالة الأناضول التركية للأنباء أن أردوغان وترامب اتفقا في اتصال هاتفي على تنفيذ الانسحاب العسكري الأميركي من سوريا في ضوء المصالح المشتركة.
وأضافت الوكالة أن الرئيسين بحثا أيضاً آخر التطورات في سوريا واتفقا على دعم التوصل لحل سياسي للصراع. ولكن هل هذه هي فعلاً نوايا واشنطن؟ وهل سيتم الانسحاب فعلاً على أرض الواقع؟
النموذج العراقي
انطلاقاً مما سبق، يبدو أن مسألة الانسحاب الأميركي وتداعياته تُقارب اليوم في كل عواصم العالم، في إطار الخطوة خطوة، لا سيما أن ثمة حيرة في تحديد ما إذا كان هناك فعلاً تخبّط داخل الإدارة الأميركية في اتخاذ قرار الانسحاب وتنفيذه، أو ما إذا كان الأمر ينطوي على خديعة، في وقت تتزايد التحذيرات من أن يكون الهدف النهائي تفجير الشمال السوري بين اللاعبين الداخليين والإقليميين والدوليين.
ومن المؤكد أن هذه المخاوف لا تأتي من فراغ، فثمة سوابق كثيرة في التكتيكات الأميركية للإدارات الأميركية المتعاقبة، أقربها إلى زمننا قرار الانسحاب من العراق في أواخر العقد الماضي، والذي ترك مناطق شاسعة تحت سيطرة مجموعات متشددة، سرعان ما ولّدت الوحش «الداعشي»، لا بل أن الأمر يمكن أن يتحوّل إلى خطر أكبر بكثير، على نحو يعيد التذكير، على سبيل المثال، بالانسحاب الإسرائيلي المفاجئ في جبل لبنان، بعيد اجتياح العام 1982، حين وجدت الميليشيات الدرزية والمسيحية نفسها أمام مواجهة حتمية قادت إلى ما يعرف بـ«حرب الجبل»، التي أشعل شرارتها الفراغ الذي خلفه الإسرائيليون، والذي اتضح في ما بعد أنه كان متعمّداً.
الحالة السورية
وفي الحالة السورية، فإنّ انسحاب الوحدة العسكرية الأميركية من سوريا، يعني أن «قوات سوريا الديموقراطية» التي تسيطر الآن على ضفة الفرات اليسرى، ستبقى من دون دعم، في الوقت الذي تسعى فيه تركيا للسيطرة ليس فقط على منبج، إنما على الأراضي ذات الغالبية الكردية بالكامل، في حين تصر الحكومة السورية على أن يسلّم الأكراد المناطق الغنية بالنفط في الضفة اليسرى لها، وأن ينسحبوا إلى الشمال، وعندئذ يضعهم الجيش العربي السوري تحت حمايته، ما يعني أن سوريا وروسيا التي تدعمها، ستدخلان حتما في حرب مع تركيا.
لا بل أن الشكوك الروسية تذهب أبعد من ذلك لجهة الإشارة إلى أن الأميركيين لم يسبق أن غادروا طواعية مناطق سيطروا عليها، وها هم قد بنوا في سوريا 17 قاعدة، وبدأوا بنشر نقاط مراقبة على الحدود التركية السورية.
يضاف إلى ما سبق سيناريوهت طرحها الكرملين على لسان المتحدث الرئاسي دميتري بيسكوف، الذي أثار أخطر تساؤل بشأن مسألة الانسحاب الأميركي، حين قال «هل ستحل محل القوات الأميركية قوات من دول أخرى؟»، وهو أمر عاد الحديث عنه مجدداً من خلال مخطط المنطقة الآمنة، وإصرار فرنسا على بقاء قواتها في سوريا.
من هنا، ثمة تقديرات روسية تحديداً بأن الولايات المتحدة ستبقي على تواجدها بطريقة أو بأخرى في سوريا، حتى بعد انسحاب جيشها من هناك، وهو ما تقوله تصريحات المسؤولين الأميركيين في قراءة بين سطورها، على غرار تأكيد المبعوث الأميركي إلى سوريا جيمس جفري بأن «الانسحاب الأميركي لن يكون سريعاً بل تدريجياً وبالتشاور مع الحلفاء»، مع التشديد على أن الولايات المتحدة «لن تقبل بعودة النظام السوري إلى المناطق التي تنسحب منها القوات الأميركية».
تقديرات إسرائيلية
وفقاً للمثل الشعبي الشهير «خذوا أسرارهم من صغارهم»، فإنّ القراءة الإسرائيلية للجدل حول الانسحاب الأميركي من سوريا تبدو مفيدة، خصوصاً أن ثمة مجموعات ضغط داخل الولايات المتحدة تنادي بضرورة ألا تتعارض الخطوات الأميركية في سوريا مع الشعار التاريخي «ضمان أمن إسرائيل».
على هذا الأساس، فإنّ التحليلات الإسرائيلية، وبعضها لكتاب ومحللين قريبين من الدوائر العسكرية والأمنية في تل أبيب، ترى أن التوقعات السائدة بشأن الانسحاب الأميركي، والفراغ الذي يمكن أن يتركه، لصالح لاعبين آخرين، مثل روسيا وتركيا وإيران، أو حتى تنظيم «داعش»، ليست واقعية، لا بل أن ثمة اعتقاداً في إسرائيل بأن المصالح الإقليمية الكردية والأميركية متداخلة حالياً، ففي الوقت الذي يحتاج الأكراد إلى حماية أميركية على المدى الطويل، فإن الولايات المتحدة تحتاجهم لسببين رئيسيين، أولهما هو «وقف المد الإيراني» في المنطقة، والثاني «تأمين وضع إسرائيل في الشرق الأوسط».
وتنسجم التحليلات الإسرائيلية مع ما أعلنه الجنرال جوزيف فوتيل، قائد القيادة المركزية الأميركية الذي يشرف على قوات بلاده في الشرق الأوسط، حين قال إن الولايات المتحدة ينبغي أن تواصل تسليح ومساعدة «قوات سوريا الديمقراطية».
وتمثل توصية الجنرال فوتيل واحدة من أقوى الإشارات حتى الآن على آمال الجيش الأميركي في شراكة دائمة مع المقاتلين الأكراد، برغم مخاوف تركيا».
الانسحاب إلى أين؟
على نحو متصل، يأتي الجدل المتجدد عن التواجد الأميركي في العراق، لا سيما في ظل الحديث عن اتّفاق بين بغداد وواشنطن على سحب القوات الأميركية من سوريا عبر الأراضي العراقية، من دون ذكر وجهة هذه القوات بعد دخولها العراق، في وقت يلوّح المسؤولون الأميركيون بضرورة بقاء هذه القوات في العراق لعدم قدرة القوات الأمنية العراقية على القيام بمهمّاتها من دون دعم أميركي.
هذا الجدل أثاره ترامب نفسه حين قال إن القواعد الأميركية في العراق باقية لمراقبة إيران، ما استدعى رداً من الرئيس العراقي، الذي شدد على أن بلاده لن تكون منصة لاستهداف دول الجوار.
وبصرف النظر عن التوضيحات الدبلوماسية، فإنّ ما يصدر من تقييمات من جانب وزارتي الدفاع والخارجية في الولايات المتحدة يشي بأنّ ثمة معضلة في هذا الإطار. وهو ما تبدّى على سبيل المثال في ما قدمه أربعة مسؤولين في وزارة الخارجية الأميركية من معلومات تفصيلية في هذا الشأن على هامش التحضير لمؤتمر «التحالف الدولي» ضد تنظيم «داعش». ففي رد على سؤال حول القواعد العسكرية الأميركية وحول تصريحات الرئيس الأميركي بسحب القوات من سوريا وإرسال جزء منها إلى للعراق لمراقبة إيران، أشار أحد المسؤولين الأربعة إلى أنه ليس هناك تغيير في وضع القوات العسكرية، مع التأكيد على أن الوجود الأميركي في العراق تحكمه اتفاقية سابقة. ولكن المسؤول نفسه كرر بطريقة غير مباشرة موقف ترامب، حين أشار إلى أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تغلق أعينها تجاه أنشطة إيران «وخصوصاً ما يقوض سيادة العراق أو ما يساعد على بقاء داعش».
يترافق ذلك، مع معلومات تنشرها وسائل الإعلام العراقية بشأن انطلاق تحركات أميركية لتشكيل حشد سني للقيام بمهمات طرد لـ«الحشد الشعبي» من الرمادي والموصل وتكريت، ثم الزحف إلى بغداد لإسقاط الحكومة العراقية.
كل ما سبق يؤكد أن ما قاله مايك بنس يبقى الأساس في فهم الموقف الأميركي، فالتحركات المتصلة بالانسحاب من شمال سوريا تبقى في إطار «تكتيكي» ضيق… وأما «المهمة» فلا تزال على حالها.
Leave a Reply