خليل إسماعيل رمَّال
أمي ها قد حلَّ عيد الفطر لأول مرة وأنتِ تحت التراب، فكيف يكون للعيد بهجة في دامس الحزن؟ كان وجهك أكثر إشراقاً وطلةً من شمس العيد يا أمي. كم كانت يداكِ تذرفان عطاءً وتحناناً وتعباً لكي تذيقنا أصناف الدنيا وأطباق الزمان فتعطي للفرح معنى وللإحتفال طعم الحياة الحلوة. الآن فقط اكتشفنا بعد غيابك أنك انتِ كنتِ العيد يا أمي.
بالأمس يا أمي الحبيبة كان يوم أربعينيك لكن ذكراك ليست موسمية ولا روزنامة في الحائط او رقماً في سطر الأيام. أنتِ مقيمة دائمة في شراييني، تسكنين جوارحي وتسيرين مع فؤادي في حلِّه وترحاله.
لا يعوض ضنك فراقكِ الهائل في هذا العيد إلا عبير الذكرى والإحساس بوجودكِ الدائم فينا، واليقين بأنكِ تنظرين إلى أبنائكِ من عليائك الروحي الطاهر لتكوني الملاك الحارس لهم والقلقة دائماً عليهم كما كنتِ في الحياة. أصبح الردى عندي هو المبتغى والحياة أضحت بلا طعم يسير موكبها نحو المجهول، لأن الإشتياق والعودة إليك ورؤية وجهك الشمّوس المنير يعادل عندي كل ما فيها وعليها.
كم أسرح مستعرضاً بدقّةٍ، في بقيةٍ من ذهن، الثواني التي أمضيتها في فيء وواحة أمومتك متسائلاً يا أمي، يا حبيبتي، عما إذا قصرت معكِ لحظة واحدة وأنا أعلم بأنك ترفضين هذا السؤال من الأساس لانكِ تفضلين الموت على تكدير خاطر إبن أو إبنة. رغم ذلك يا حبيبتي يا غالية سامحيني إذا قصرت هنيهة واحدة حتى استمر بالعيش في جدث الأيام المسكونة في هذه الجثة المتحركة، فحياتي من بعدكِ موتٌ مؤجَّل وفناءٌ مع وقف التنفيذ.
كيف يمكن للإبن البكر أنْ يرثي أمه؟ وكيف يسكب العبرات في كلمات؟ فمهما كُنتَ كاتباً وأديباً تظل تذرع اللغة جيئةً وذهاباً وتتسلق هضاب المفردات فلا تحصد إلا فتات الحروف، ذلك أن المعاني المجسِّدة للمشاعر نحو الأم ما زالت تفتش عن عباراتٍ لم تُخلَقْ بعد ولم يخطها يراع.
إلى جنان الخلد والنعيم يا أمي وَيَا كل الأمهات الطاهرات للذين يقرأون هذه السطور أو يسمعون بهذه الكلمات. فامهاتنا هن عطية الله إلى الأرض ومنحة الدنيا وبرَكة الحياة ووجه السماء وأريج البقاء وصورة النقاء.
كم نادمٌ أنا لأني لم أقل لكِ في حياتك إني أحبك يا أمي مع أني كنت خادماً لقدميكِ، من دون منَّة مني بل هو واجب وقناعة، فاعذريني يا أمي على قلة التعبير مقتصراً فقط على الفعل، لكنكِ كنتِ تعلمين بضجيج الصمت وسكون الكلام. ومع ذلك، أنا مستعد لأن أبذل روحي لأقولها لكِ مرة واحدة وجهاً لوجه: أنا أحبك يا أغلى من الروح والحياة كلها.
(مهداة إلى أمي الحبيبة الحاجة زينب سالم رمَّال (أم خليل) في ذكرى أربعينها الطاهر وبمناسبة عيد الفطر السعيد أعاده الله عليكم بالخير والصحة).
Leave a Reply