ديربورن
عاش كريم حياةً قصيرة وهادئة، وعندما توفي في سن العاشرة بسبب مرض عضال، قرّرت والدته نمير الكردي التبرع بأعضائه لإنقاذ حياة آخرين من الموت المحتّم، رغم عدم شعبية الفكرة في أوساط العرب الأميركيين، الذين يحجم معظمهم عن التسجيل للتبرع بأعضائهم عند استخراج رخص قيادة السيارات.
لقد وُلد كريم مصاباً بالتشوه الشرياني الوريدي (أي في أم)، وهو مرض تتشابك فيه الأوعية الدموية بشكل يعيق تأدية بعض الوظائف الحيوية، وفي العادة تكون مثل هذه الحالات قابلة للعلاج والشفاء، ولكن في حالة كريم كانت الشرايين والأوردة مختلطة بالقرب من جذع الدماغ، ما حال دون تطبيبه، وتركه عاجزاً عن النطق والكلام.
لكن والدته نمير، وهي من سكان مدينة ديربورن، أحبت حباً غامراً وليدها الذي كان «محبّاً ومعبّراً» رغم عجزه عن الكلام، بحسب الأم التي أضافت: «لقد كان لطيفاً للغاية، كان مثل الملاك، كان هادئاً وقانعاً ومطمئناً، كما لو أنه ينظر إليك بعيني جرو صغير».
وفي تموز (يوليو) عام 2021، تدهورت صحة كريم، وأسعف إلى المستشفى حيث سارع الأطباء إلى وضعه تحت التنفس الاصطناعي، ثم ما لبث أن فارق الحياة بعد فترة وجيزة.
وبعد وفاة الصبي، قررت نمير التبرع بأعضاء كريم بعد إطلاع والده أحمد خصوان الذي يعيش خارج البلاد، والذي كان بدوره مشجعاً وداعماً للقرار بدون أي تردد.
وعزت نمير قرارها بالتبرع بأعضاء ابنها، إلى رغبتها في أن يكون لموت كريم «معنى ما»، ولكي تمكنه من المساهمة في مساعدة الآخرين بطريقة أو بأخرى. وقالت: «لقد أردنا المساعدة.. تطلب الأمر الكثير من الجرأة والشجاعة»، لاسيما وأن القرار لم يكن مقبولاً بين أفراد عائلتها، بمن فيهم والداها اللذان كانا متشككين حول شرعية التبرع بالأعضاء في الدين الإسلامي.
التبرع بالأعضاء
مايزال معظم العرب والمسلمين الأميركيين يُعرضون عن التسجيل للتبرع بأعضائهم وأنسجتهم مرجحين حرمانية المسألة من الناحية الدينية، رغم أن «المجلس الفقهي بأميركا الشمالية» كان قد أصدر فتوى عام 2018، اعتبرت التبرع بالأعضاء بعد الموت أمراً جائزاً في الشريعة الإسلامية.
وفي هذا السياق، أكد إمام «المنتدى الإسلامي في أميركا» بديربورن هايتس، السيد حسن القزويني، بأن الدين الحنيف يبيح للأفراد التبرع بأعضائهم خلال حياتهم أو بعد موتهم على حد سواء، لكن ضمن شروط معينة.
وأفاد القزويني لـ«صدى الوطن» بأن التبرع بالأعضاء خلال الحياة يجوز بشرطين، الأول: ألا يكون العضو المتبرع به خارجياً كالعين مثلاً، والآخر ألا تتوقف عليه حياة المتبرع.
وأوضح القزويني بأن التبرع بعد الوفاة هو حق مخصوص للإنسان الذي يريد أن يتبرع بأعضائه عبر وصية أو موافقة مسبقة، ولا يمكن لأي شخص آخر أن ينوب عنه في اتخاذ ذلك القرار بعد موته (بمن فيهم ورثته الشرعيون).
وعندما عرضت «صدى الوطن» حالة كريم على السيد القزويني، أجاب بأن قرار التبرع بأعضاء طفل قاصر يجب أن يتم بموافقة ولي أمر الطفل، وهو الأب.
هدية الحياة
أكدت نمير بأن قرار التبرع، آنف الذكر، كان صعباً إلى أبعد الحدود، وأنها ماتزال حتى الآن تفكر في الأمر، لكنها استطاعت تجاوز المحنة بسبب معرفتها بشخص خضع لعملية زرع كبد كان قد تبرع به شخص آخر. وقالت: «لطالما شعرت بالامتنان لهؤلاء الأشخاص الذين يفكرون بحياة الآخرين.. حتى بعد موتهم».
مصطفى شرفي، هو صديق لعائلة نمير، كان قد خضع لعملية زرع الكبد في سنّ لم يتجاوز البضعة أشهر، وكان حينها من بين أصغر الأشخاص الذين خضعوا لعمليات زرع الأعضاء. وهو الآن، متزوج ويبلغ من العمر 36 عاماً، ولديه ابن، ويعيش حياته على أكمل وجه.
ومتأثرة بحالة مصطفى، قالت نمير: «لقد أثرت فيّ حالته إلى أبعد الحدود، وأشعر بأنني اتخذت القرار الصحيح كلما رأيته متحمساً وممتناً للحياة.. في النهاية علمت أن قرار التبرع بأعضاء كريم هو الشيء الصحيح الذي ينبغي عمله».
بفضل قرار والدته الشجاع، تمكن كريم من تقديم كلية واحدة لأحد المرضى، ورئتيه الاثنتين لشخص آخر، كما تم تقديم كبده لأحد البحوث الرامية لإيجاد علاج لبعض الإصابات النادرة في الشرق الأوسط.
شرفي، وهو من سكان مدينة ستيرلنغ هايتس، يعمل متطوعاً لدى منظمة «هدية الحياة بميشيغن» Gift of Life، التي تسعى إلى تثقيف الجمهور وحثه على التسجيل للتبرع بالأعضاء والأنسجة، جنباً إلى جنب مع محاولة تحطيم المفاهيم الخاطئة حول هذه المسألة الشديدة الحساسية، في المجتمعات الإثنية والدينية، ومن بينها مجتمع العرب الأميركيين.
وأوضح شرفي بأنه يشعر بالتواضع والامتنان لأن حالته ألهمت نمير وشجعتها لكي تتبرع بأعضاء ابنها، وقال: «إنه لشعور جيد حقاً أن تسهم في إنقاذ وشفاء الآخرين»، مضيفاً: «إنه أمر عظيم أن تقوم بعمل جيد، من ناحيتي استمتع بنشر رسالة المنظمة، أريد أن أترك إرثاً لابني».
وأبدت نمير تفهمها لتشكك العرب والمسلمين وترددهم في التسجيل على التبرع بالأعضاء والأنسجة، وقالت: «إنني أدرك صعوبة المسألة، ولكنني أريد القيام بدوري لمحو وصمة العار المرتبطة بها في المجتمعات المتعددة الثقافات».
وتشير البيانات إلى أن أكثر من نصف المرضى، ذكوراً وإناثاً، الذين ينتظرون أدوارهم لزرع أعضاء منقذة للحياة هم أشخاص ملونون، ومع ذلك فإن أفراد تلك المجتمعات هم الأكثر تردداً للتسجيل كمتبرعين للأعضاء والأنسجة.
وينتظر أكثر من 100 ألف مريض في الولايات المتحدة لزرع عضو واحد على الأقل، منقذ للحياة، بينهم أكثر من 60 بالمئة من الأقليات الإثنية والعرقية. أما في ولاية ميشيغن، فيوجد أكثر من 2,400 مريض، يتحدر حوالي نصفهم من أصول إفريقية أو لاتينية أو عربية.
ويعتبر آب (أغسطس)، هو شهر توعية الأقليات بالتبرع بالأعضاء والأنسجة، وهو يتضمن فعاليات متنوعة لكسر الصور النمطية حول هذه المسألة، من خلال التوعية والتثقيف، والاحتفال بعائلات المتبرعين والمرضى الذين تم إنقاذ حياتهم عبر عمليات الزرع.
وفي هذا السياق، قالت نمير: «نحن بحاجة إلى طرح هذه المسألة بشكل جدي في مجتمعنا.. إن المتبرع بأعضائه يقدم على فعل أشرف شيء على الإطلاق.. إنه يمنح الحياة لشخص آخر».
للتسجيل كمتبرع بالأعضاء، يمكن زيارة الموقع الإلكتروني لمنظمة «هبة الحياة بميشيغن» على العنوان الإلكتروني: GOLM.org
تم إعداد هذا التقرير بمساهمة حصرية
من «هدية الحياة بميشيغن»
لصحيفة «صدى الوطن»
Leave a Reply