قال أحد الدبلوماسيين السوفيات، في الحقبة الآفلة: “مشكلة السوريين أنهم يظنون.. أن سوريا دولة عظمى”. وسوريا.. بكل تأكيد ليست دولة عظمى، لكنها.. عظيمة. وهذا اليقين ليس نابعاً من شوفينية أو فاشستية أونازية مضطربة، بل من منطلق الإيمان بأن سوريا عظيمة بثقافتها وتاريخها وعاصمتها وشعوبها التي تعاقبت على تمثّل حضارتها ومدنيتها وعراقتها.
وكسوري، أشعر بالفخر، حين يكتب مدير متحف اللوفر الفرنسي أندريه بارو “لكل إنسان في العالم وطنان: وطنه الذي ولد فيه، وسوريا وطنه الآخر”. وأشعر في الوقت نفسه بالعار حين يخاطب أحد أعضاء مجلس الشعب الرئيس بشار الأسد: “الوطن العربي قليل عليك يا سيادة الرئيس.. أنت لازم تقود العالم”. والفرق.. هناك من يبجل الأوطان، وهناك من يعبد الصنم.
الرئيس.. الذي خذل شعبه وأحبطهم في خطابه الأخير، لم يهتم بحب السوريين والتفافهم حوله منذ قدومه الى الحكم في العام 2000، ولم يبادلهم الحب بالحب، وقرر على العكس من ذلك.. التلويح بالقبضة، وما أدراكم ما القبضة السورية!
والرئيس.. الذي يفضل السوريون مناداته بالدكتور، اختار دراسة طب العيون، لأنه، وبحسب قوله، ليس فيه الكثير من الدم (واليوم في سوريا الكثير من الدم)، ولأنه اختصاص ليس فيه طوارئ (وفي سوريا حالة طوارئ منذ نصف قرن تحصي أنفاس السوريين وتعتقل أحلامهم).
والرئيس الطبيب.. الذي حمل إليه السوريون أمراضهم وعللهم، أعرض عن أوجاعهم وآلامهم، ورفض معاينتهم ومعالجتهم. لم يقم الطبيب، كما كان منتظراً بجراحة تستأصل سرطانات القمع والفساد والمحسوبيات، ولم يقدم لهم الإسعافات الأولية، وعزف عن تقديم ولو حبة إسبرين واحدة لشعبه، فلماذا كل هذه القسوة؟
والسوريون الذين يشعرون الآن بالأسى والخذلان.. والإذلال، يعرفون أن التغيير في سوريا لا يحتاج إلى كل تلك السلاحف البيروقراطية، ولا إلى المؤسسات، ولا إلى الحوار الطويل. ويعلمون تماما، بأن دستورهم المعتقل منذ نصف قرن، ينص في المادة 101، على حق الرئيس بإقرار أو إلغاء قانون الطوارئ.
بعد الخطاب الأخير، أصبحت سوريا بلدا ملغوماً بإرادة سياسة عليا، بعد إضافة مفردات جديدة إلى معجم القمع والاستبداد السوري. الفتنة، والوحدة الوطنية والمؤامرة الخارجية.. هي العصي الغليظة التي ستسوق السوريين إلى أقبية السجون والتخوين والقتل.
يا حيف! يردد ملايين السوريين هذه الكلمة وهذه الآهة مع الفنان سميح شقير الذي غنى لشهداء درعا الذين ذبحوا بسكاكين أخوتهم.
يا حيف! وُضع السوريون تحت التهديد: “الوحدة الوطنية”. ولكن.. من يتذكر أن فارس الخوري كان رئيس أول حكومة وطنية بعد استقلال سوريا؟ ومن يتذكر أن اللبناني شوكت شقير كان رئيس أركان الجيش السوري وثاني أقوى شخصية وقتها بعد الرئيس أديب الشيشكلي. ومن يتذكر أن الضابط اللاذقاني جول جمّال اعترض بطوربيده البحري السفينة الفرنسية خلال العدوان الثلاثي على مصر مسجلاً ربما أول عملية استشهادية؟ ومن يتذكر أن المذيع عبدالهادي البكار أعلن من استوديوهات إذاعة دمشق في لحظة قصف الإذاعة المصرية: هنا القاهرة؟ ومن يعرف أن قائد الجيش السوري يوسف العظمة رفض نصيحة زملائه الضباط بعدم الذهاب إلى منطقة ميسلون لملاقاة الجيش الفرنسي، وأنه قال لهم: أعرف أنني سأموت.. ولكنني سأذهب لكي لا يكتب في التاريخ أن الفرنسيين دخلوا دمشق بدون حرب. استشهد العظمة، ودخل الفرنسيون سوريا، وتمت مقاومتهم في جميع أرجاء الوطن، ومن مختلف مكونات الشعب السوري، في السويداء ودمشق وريفها والساحل والجزيرة. لماذا تتم المقامرة بـ”الوحدة الوطنية” في سوريا، ومن قمة هرم السلطة في دمشق؟ يا حيف..
ثمة في سوريا الآن 22 مليون سوري في السجن الكبير. 22 مليون ممنوعون من الكلام والتعبير.. ومن ساعة التنفس، وسوريا الآن وأكثر من أي وقت مضى.. قبو مظلم وخانق ورطب، ولا بديل عن الحرية.
ربما ينجح السوريون بنيل حريتهم، ولكن عليهم أولا المطالبة بها، والنضال في سبيلها ليس فقط ضرورة وطنية وإنسانية وثقافية وسياسية، بل هو ضرورة أخلاقية.
الحرية.. الحرية.. الحرية للسوريين!
وأعرف أنني أحمل الزهور إلى قبري.
Leave a Reply