عماد مرمل – «صدى الوطن»
تستمر مفاصل الدولة اللبنانية فـي التحلل والتآكل، تحت وطأة الشلل الشامل الذي أصابها، منذ الدخول فـي «غيبوبة» الشغور الرئاسي الذي مضى عليه أكثر من سنة ونصف السنة، وما تلاه من عوارض جانبية أصابت السلطتين التنفـيذية والتشريعية، كان من أبرز مظاهرها تعثر عمل مجلسي النواب والوزراء، وصولاً الى إصابة جسم الدولة بـ«أنفلونزا مالية».
وكان من الطبيعي ان ينعكس المأزق السياسي المستفحل والمتمادي، انكماشاً وركوداً فـي الوضع الاقتصادي المتأثر أصلاً بالأزمة السورية التي تركت تداعيات مباشرة على لبنان، خصوصاً لجهة ضرب السياحة المعروفة بأنها شديدة التأثر بالاضطراب الأمني، وتقلص الاستثمارات، وتدفق النازحين الذين رتبوا أعباء إضافـية على الدولة، وانكماش النشاط التجاري عبر الشريان السوري الذي يشكل الرئة البرية الوحيدة التي يتنفس من خلالها المزارعون والتجار والصناعيون ورجال الأعمال اللبنانيون المعنيون بالتصدير والاستيراد.
وما زاد الطين بلة، أن لبنان يفتقر منذ عام 2005 الى موازنة مالية تنظم النفقات والايرادات، فـي سابقة تكاد تكون نادرة على مستوى العالم كله، ما أدى الى حالة من التسيب والفوضى فـي الإنفاق، وسط غياب تام للرقابة البرلمانية التي هي من صلب عمل مجلس النواب، ما أشعر الوزراء بانهم قادرون على فعل أي شيء من دون حسيب أو رقيب، الى حد ان روائح التلزيمات والصفقات المشبوهة بدأت تفوح من أورقة بعض الوزارات والادارات التي تحولت الى «محميات» تتمتع بـ«الحكم الذاتي».
هذا الواقع القاتم أفرز مؤشرات اقتصادية ومالية سلبية، تمثلت فـي ركود الاسواق وتراجع الاستهلاك وانخفاض الايرادات وتفشي الفساد وارتفاع منسوب البطالة، فـي مقابل زيادة أعباء الدولة واحتياجاتها فـي مجالات عدة، الأمر الذي تسبب فـي اتساع الهوة بين القدرات والمتطلبات.
السنيورة مجدداً
وإزاء هذه المعضلة، طرح رئيس كتلة «المستقبل» النيابية فؤاد السنيورة خلال احدى جلسات الحوار الوطني مؤخراً زيادة الضريبة على صفـيحة البنزين بقيمة خمسة آلاف ليرة، بحجة أن انخفاض سعر الصفـيحة الى ما دون العشرين ألفا بفعل التراجع العالمي فـي سعر النفط، يسمح بفرض مثل هذه الإضافة الضريبية على المواطن، لتأمين بعض احتياجات الدولة الاضطرارية.
لكن هذا الطرح واجه معارضة شديدة من قوى سياسية ونقابية عدة ومن هيئات ناشطة فـي الحراك الشعبي والمجتمع المدني، ما أفضى الى صرف النظر عنه، خصوصاً أن المواطن اللبناني لا يحتمل أي أعباء جديدة، فـي ظل تواضع الحد الادنى للأجور وتراكم الضغوط المعيشية.
والمفارقة، ان بعض السياسيين يستسهل مد اليد الى جيوب اللبنانيين شبه الفارغة بحثاً عن مداخيل جديدة للخزينة، فـي حين ان هناك خيارات أخرى أكثر انتاجية يمكن اللجوء اليها، إذا توافرت الارادة السياسية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر ضبط الهدر ومكافحة الفساد وتحسين الجباية وتفعيل القطاعات الانتاجية كالزراعة والصناعة.
وهناك من يقول ان السلطة لو حزمت أمرها على مستوى معالجة ملف مخالفات الأملاك البحرية وحده لكانت قد استطاعت تأمين مردود مالي كبير، لكن ثبت فـي أكثر من مرة انها أضعف من ان تواجه الحمايات السياسية للمخالفـين، فـي حين انها لا تتردد فـي الاستقواء على الناس العاديين عبر فرض رسوم وضرائب اضافـية عليهم، كلما سنحت لها الفرصة لذلك.
ويقول وزير المالية علي حسن خليل لـ«صدى الوطن» انه استطاع خلال قرابة عامين معاينة واقع الدولة عن قرب، كون وزارته تقع على تماس مباشر مع جميع الوزارات والادارات، مشيراً الى انه اكتشف أن الدولة بمفهومها الحقيقي غير مكتملة فـي لبنان، محذراً من ان الوضع الاقتصادي-المالي وصل الى منعطف دقيق ومرحلة حساسة، بفعل التداعيات المترتبة على واقع المؤسسات الدستورية شبه المشلولة.
ويلاحظ أن من مظاهر الخلل النافرة ميل الوزراء الى التصرف كأنهم رؤساء للجمهورية بعدما أصبحت تواقيعهم جميعا الزامية على المراسيم والقرارات التي تصدر عن الحكومة منذ بدء الشغور الرئاسي، والأنكى من ذلك انهم متفلتون من رقابة مجلس النواب الذي لا يجتمع إلا نادراً، ما يجعل هامش الخطأ أو المخالفة أوسع، من دون أن تكون هناك فـي المقابل أي مساءلة او محاسبة كما يقتضي النظام الديمقراطي.
ويوضح أن احتياجات الدولة الى تزايد، وكل وزير يحاول ان يقتنص اعتمادات جديدة لوزارته تفوق ما هو مخصص لها أصلاً، ما يستوجب تلقائياَ نفقات إضافـية، فـيما الايرادات سجلت تراجعاً مقداره سبعة بالمئة قريباً، مؤكداً أنه شخصيا وبرغم جميع الضغوط التي يتعرض لها من زملائه يرفض مخالفة القوانين فـي عملية الصرف، «وأنا لست مستعداً لمنح سلف خزينة مخالفة للقانون، وبالتالي فإن أي انفاق جديد يتطلب من الناحية الاجرائية تفويضاً من مجلس النواب».
أما على الصعيد المالي المحض، فان خليل يلفت الانتباه الى ان منح الوازارات اعتمادات إضافـية يستوجب بداية تأمين مصادر آمنة للتمويل، وإلا فاننا سنكون امام احتمالين أحلاهما مر: اللجوء الى الاقتراض وما يعنيه من ارتفاع فـي الدين العام او فرض المزيد من الضرائب مع ما ترتبه من أعباء ثقيلة على اللبنانيين.
ويحذر خليل من أن القفز البهلواني والعشوائي فـي المجال المالي سيقود الى زيادة فـي العجز وبالتالي تحميل الاقتصاد حمولة زائدة تفوق طاقته فـي هذه المرحلة، لافتاً الانتباه الى ان بعض الوزراء لا يراعون فـي متطلباتهم الوقائع المالية الحساسة، ومشدداً على ضرورة ضبط الإنفاق تماشياً مع الظروف الصعبة.
ويعتبر خليل أن الاولوية يجب أن تكون لإقرار الموازنة العامة المعطلة منذ عام 2005، لأن من شأنها أن تضع الاطار العام للنفقات والايرادات، داعياً الى الكف عن الهروب الى الأمام على هذا الصعيد، لأن كلفة الوقت الضائع ستكون مرتفعة اقتصادياً ومالياً.
Leave a Reply