محمد العزير
كثيراً من الأحيان تطغى السياسة على الرمز، وحين تبلغ ممارسة السياسة حدها الدموي في الحروب وتخلّف ضحايا وثارات وندوباً وخراباً، يصبح الحديث عن المبادئ الإنسانية والقواعد الأخلاقية ضرباً من الترف أو العبث، خصوصاً في نظر ضحايا الحروب والمجيّشين لها. لكن بعد انجلاء دخان الحرائق وخفوت صوت الرصاص والمدافع يحاول الناس أن يرمموا ما فقدوه من آدميتهم، وأن يتعلموا من أخطائهم ومثالبهم، وهذا لا يتوفر إلا بتوفر الحرية والقدرة على التعبير والتعالي على الغلواء الوطنية والقومية والشوفينية، بصرف النظر عن النتائج المحققة للصراعات.
الأسبوع الماضي، وفي ظل إدارة الرئيس العنصري العدواني المنفلت من عقاله دونالد ترامب، وعلى وقع سياسات التمييز والتفرقة والإسلاموفوبيا ومنع السفر وتشجيع الأنظمة القمعية، بادرت كاليفورنيا، كبرى الولايات الأميركية، إلى الاعتذار رسمياً من مواطنيها من ذوي الأصل الياباني، بعد 78 سنة على قرار الرئيس فرانكلين د. روزفلت، أثناء الحرب العالمية الثانية، القاء القبض على جميع سكان أميركا من أصل ياباني ووضعهم في معسكرات اعتقال معزولة بحجة الخوف من قيامهم بالتجسس لصالح اليابان التي كانت تواجه أميركا في حرب الغاء فظيعة في المحيط الهادئ. وكانت حصة كاليفورنيا من معسكرات الاعتقال هي الأكبر كونها موطن العدد الأكبر من المهاجرين أو المنحدرين من أصول يابانية في ذلك الحين ولا تزال.
فقد أصدر مجلس نواب الولاية يوم الخميس في العشرين من شباط 2020، الذي يصادف الذكرى الثامنة والسبعين لقرار روزفلت، قانوناً بالإجماع يعتذر عن دور الولاية في اعتقال وترحيل حوالي 120 ألف شخص من أصل ياباني معظمهم من المواطنين الأميركيين دون تمييز بين رجل وامرأة وطفل وشيخ، ونقلهم إلى عشر معسكرات اعتقال، اثنان منها في الولاية.
ولحظ القانون، العديد من القوانين الفدرالية والمحلية التي حملت تمييزاً ضد ذوي الأصول اليابانية اعتباراً من العام 1913، قبل أن يوجه اعتذاراً «لكل الأميركيين من أصل ياباني على الأفعال السابقة للولاية لدعم سياسة العزل غير العادلة، والترحيل والاعتقال خلال الحرب العالمية الثانية، وكذلك لفشل الولاية في الدفاع عن الحقوق والحريات المدنية لليابانيين الأميركيين خلال تلك الحقبة».
ولفت القانون إلى «الأحداث الراهنة على المستوى الوطني مؤكداً على ضرورة التعلم من أخطاء الماضي لضمان عدم حصول عدوان جديد على تلك الحريات ضد اية جالية في الولايات المتحدة». وركز عضو مجلس النواب في ولاية كاليفورنيا الياباني الأميركي آل موراتسوتشي على هذه المسألة مقارناً بين ما حصل من حملات ضد ذوي الأصول اليابانية قبل الحرب العالمية الثانية والجو السائد الآن في عهد ترامب قائلاً: «هذا تذكير مهم ليس فقط لقيمته التاريخية، بل إنه مهم بسبب التوازي الملفت بين ما حصل لليابانيين الأميركيين وبين ما يحصل الآن».
وأضاف: «لا يقتصر الأمر على حملات التخويف من المهاجرين من أميركا الوسطى، أو صور الأطفال والعائلات المحتجزة في أقفاص، ولكن نرى ماذا يحصل للمسلمين الأميركيين. فبعد الهجوم على بيرل هاربر كان الخوف من «الآخر» يركز على الياباني الأميركي كجاسوس محتمل، أما بعد الحادي عشر من أيلول فأصبح الخوف ذاته ينصب على المسلمين الأميركيين كـإرهابيين محتملين».
وكانت قضية اعتقال اليابانيين الأميركيين موضع اعتذار فدرالي سابقاً، فقبيل نهاية عهده عام 1988، وقع الرئيس رونالد ريغان قانون الحريات المدنية الذي أشار في نصه إلى أن اعتقال اليابانيين الأميركيين كان بدوافع تفرقة عنصرية وهستيرية وفشل القيادة السياسية، ومنح القانون 20 ألف دولار كتعويض للناجين من معسكرات الاعتقال.
الاعتذار الرسمي لكاليفورنيا لليابانيين الأميركيين ليس الأول من نوعه لكنه الأشمل من حيث الذين توجه اليهم، ويأتي في سياق جملة من الاعتذارات التي قدمتها الولاية لمكونات عديدة من مجتمعها الأكثر تنوعاً في أميركا. فقد أصدر حاكم الولاية كيفن نيوسم العام الماضي اعتذاراً رسمياً عن «التاريخ المظلم» من العنف والتمييز في الولاية ضد السكان الأصليين، وأعلن الشهر الماضي عن مبادرة للعفو عن المثليين والمتحولين جنسياً الذين اتهموا بالإلحاد قبل العام 1975 (لتصحيح سجلاتهم العدلية). وسبق للولاية عام 2006 أن اعتذرت عن الترحيل غير القانوني لمكسيكيين أميركيين في ثلاثينيات القرن الماضي. كذلك اعتذرت للصينيين الأميركيين عن قوانين عنصرية ضدهم يعود بعضها إلى القرن التاسع عشر.
قد لا تعني كل هذه الاعتذارات الرسمية شيئاً لمن ذاقوا الأمرّين بسبب القوانين المجحفة ولمن فارقوا الدنيا وهم رهن الاعتقال أو الترحيل، لكنها تعني الكثير للمستقبل، وتمنح «مشاريع» الاضطهاد الجديدة، خصوصاً في الجو السياسي الحالي، ليس فقط الأمل بأن يتم إنصافهم لاحقاً، ولكن السبب والحافز للدفاع بقوة وحيوية عن حقوقهم وحياتهم في وجه نكسات الديمقراطية التي تطل برأسها بين حين وآخر.
Leave a Reply