لشهر الصوم مكانة خاصة في قلوب المسلمين حول العالم، فإليه تتطلع أرواحهم وقلوبهم، وإلى معانيه السامية تنخطف جوارحهم ومشاعرهم، فرمضان من الناحية الدينية هو الشهر الذي أنزل فيه القرآن الكريم، وهو من الناحية الاجتماعية مناسبة لاجتماع الأهل والأصدقاء والأحبة، ومن الناحية الإنسانية العامة، هو شهر الإحسان والتعاطف مع الفقراء والمحرومين، بوصفهم إخوة في العائلة الإنسانية الكبيرة.
جريا على العادة، تستقبل الجالية العربية في منطقة ديترويت الكبرى الشهر الفضيل بمزيد من الشغف والحماس والاشتياق للأجواء الرمضانية التي تمتزج فيها النفحات الإلهية بالمشاعر الإنسانية السامية، إذ كلما ازداد الإنسان قربا من ربه، ازداد قربا من أخيه الإنسان.
في سياق آخر، غدا الصيام تحديا كبيرا وشاقا خلال الأعوام القليلة الماضية، بسبب طول ساعات الصوم التي قد تصل إلى حوالي 17 ساعة يوميا، في الولايات المتحدة، ويزداد الصوم مشقة بسبب ارتفاع درجات الحرارة، الأمر الذي يدفع الكثير من الصائمين إلى تغيير عاداتهم اليومية، كأن يسهروا طوال الليل ويناموا خلال فترة النهار، لتفادي الآثار الضاغطة الناتجة عن الجوع والعطش.
وبسبب تبدل العادات اليومية، تتحول ليالي ديربورن إلى مناسبات لاجتماع الأهل والأصحاب والخلان الذين يفضل بعضهم قضاء الأوقات معا، وتناول الإفطار في المطاعم المنتشرة بالمدينة، ثم الذهاب بعدها إلى المقاهي من أجل السمر والسهر حتى ساعات الصباح الأولى، ليذهبوا بعدها إلى تناول السحور في المخابز العربية التي تجتذب المزيد من الزبائن لتناول مأكولاتها الرمضانية.
أما على المستوى الإيماني، فيفضل البعض الآخر، استثمار القيمة الاستثنائية للشهر الفضيل في التعبد والمواظبة على صلاة الجماعة في المساجد، وقراءة القرآن الكريم. وهذه النشاطات مجتمعة تجعل من مدينة ديربورن مدينة تضج بالحياة والحركة خلال الشهر الفضيل، وبشكل بات يميزها عن باقي المدن الأميركية، ويصبغها بصبغة خاصة تجتذب الكثير من الأميركيين، من المسلمين وغير المسلمين، الذين يرغبون بالاستمتاع بالأجواء الرمضانية الخاصة خلال هذا الشهر الفضيل.
المؤسف في الأمر أن أجواء ديربورن الرمضانية هذه، ليست سوى نتاج جهود فردية، في ظل الغياب المستمر لأية جهود تنسيقية لتسويق روحية ديربورن خلال الشهر الفضيل، سواء على المستوى الشعبي أو الرسمي، حيث لا تبدي المنظمات المحلية و«غرف التجارة» التي تتحدث باسم المدينة أية مبادرة لتسويق «رمضان ديربورن» وتعريف الأميركيين به وبخصوصية هذه المدينة، أما البلدية فتكتفي بإصدار «معايدات» للجالية بحلول الشهر الكريم دون أن تقوم بأي مسعى منها لتطوير هذا الجانب الخاص بمدينة ديربورن.
والمبادرات يمكن أن تكون بسيطة وغير مكلفة مثل نشر «فوانيس رمضان» على طول ميشيغن أفنيو أو وورن، أو تزيين واجهات المحال التجارية والمنازل بما يعكس روحية الاحتفال بالشهر الفضيل عند المسلمين.
وكنا في «صدى الوطن» قد طالبنا بلدية المدينة، والمنظمات المحلية، وأصحاب الأعمال التجارية، بضرورة العمل معا من أجل الترويج «لليالي رمضان في ديربورن» لاجتذاب المزيد من الزبائن إلى المدينة وضخ الحياة في شرايينها التجارية، ولكن دعواتنا لم تلق آذانا صاغية، بكل أسف. ربما البعض لا يريد لديربورن أن تظهر وجهها العربي أكثر من اللزوم!
بعيداً عن السياسة، ليس شهر رمضان مناسبة لتقوية الأواصر العائلية فحسب، وإنما مناسبة لتعميق العلاقات الإنسانية واستدامتها، ومحاربة كل أشكال الكراهية والتعصب والطائفية، إضافة إلى التحلي بالأخلاق الرفيعة والحس المجتمعي الراقي الذي يصون حرية الأفراد، على قاعدة: تبدأ حريتك عندما تنتهي حرية الآخرين. وإننا إذ نقول هذا الكلام، فذلك لأن السنوات الأخيرة، باتت تشهد تصرفات غير لائقة من قبل بعض الأفراد الذين يتصرفون بدون أدنى اعتبار لحقوق الآخرين، وكأن رمضان يعطيهم رخصة لإزعاج الناس، خاصة في أواخر الليل، أثناء انصرافهم من أماكن السهر، أو ارتيادهم للمطاعم والمخابز من أجل تناول وجبة السحور، فتراهم يحدثون الفوضى والجلبة ويطلقون زمامير سياراتهم عاليا في الأحياء السكنية، أو يجتمعون في «كاراج»، ويقضون ليلتهم بالأحاديث والصراخ مقلقين راحة جيرانهم، دون أي إحساس بالخجل أو الندم.
ومما لاشك فيه، أن مثل هذه التصرفات تتنافى مع القيم والتقاليد الرمضانية، التي يأتي في مقدمتها الشعور بالآخرين واحترام أوضاعهم وخصوصياتهم ومراعاتها، فالدين الإسلامي صريح في حضه المسلمين على أن يكونوا ودعاء ولطفاء مع جيرانهم، وذلك بغض النظر عن عقائدهم الدينية. وفي هذا الصدد تقول الآية القرآنية: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا}. (سورة النساء 36)
Leave a Reply