ورثنا حب الهجرة من أجدادنا الذين كانوا مهووسين بالبحث عن الماء والكلأ، فضربوا في الأرض. وتوالت هجراتهم السامية من شبه الجزيرة العربية، إلى الشام والعراق والحجاز، وأنشأوا أمما وحضارات، فكان الآراميون والآشوريون والبابليون والكنعانيون والفينيقيون وغيرهم. ثم أخذتهم موجات أخرى من الهجرة إلى بقاع وبلاد أخرى أبعد، أيام الفتوحات الإسلامية، حيث افتتحوا أقطاراً شاسعة وصهروا أمما وشعوباً بفضل قوة ثقافتهم، في آسيا وافريقيا وأوروبا.
ولم تتوقف هجرات العرب عند ذلك، إذ تدفقت بعدها موجات.. إلى أقاصي الأرض، في الأميركيتين وأستراليا. وأما آخر الهجرات، فهي هجرة العرب الأميركيين من ديربورن إلى ديربورن هايتس، لأسباب لا تتعلق بالماء والمراعي والكلأ هذه المرة، بل تتعلق بالرغبات والأحلام البورجوازية، والميول المستجدة إلى أساليب الحياة الراقية، التي ترافقت مع الغنى المفاجئ.. الذي أصاب الكثيرين من العرب “الذين فروا من بلدانهم بسبب الحروب والكوارث ونقص الحريات العامة” وليس بسبب أحلامهم بتكوين الثروات وتجميع الأموال كما يشيع الأعداء والمبغضون والحاسدون!
وعاش العرب في ديربورن منذ قرابة القرن من الزمان وعمروها وكانوا السبب في ازدهارها، فصارت “عاصمتهم” في ميشيغن، وفي الولايات المتحدة، ولكنها.. مثل بقية “العواصم” العربية الأخرى، يحبها أبناؤها ويشتمونها في الوقت نفسه. يرجمونها ويحنون إليها. يتأففون منها ويفخرون بها، يأكلون من صحنها ويبصقون فيه.
ولهذه المدينة مكانة خاصة في قلبي، ولاسمها وقع مختلف، مع أني لم أعرف إلا مؤخراً (جداً) وفقط في الأسبوع الماضي، خلال زيارتي لشيكاغو، أن اسم “ديربورن” مأخوذ من اسم الجنرال هنري ديربورن، وأن هذه المدينة أسست في العام 1836، (كقرية في حينه) وأخذت اسم ذلك الجنرال الذي كان وزيراً للحرب أيام الرئيس توماس جيفرسون، وقد أصبحت مدينة عبر التصويت في العام 1929 خشية أن يتم استيعابها وابتلاعها من قبل مدينة ديترويت.
وللعرب حضور مؤثر في هذه المدينة، فقد استطاعوا إرساء الكثير من ملامح الثقافة العربية، رغم أن ديربورن تعد أساساً من المدن الحصينة، بفضل غناها وثرائها، كمدينة تضم الكثير من مصانع السيارات.
أما آخر الإضافات العربية إلى تاريخ هذه المدينة، فهو اللقب الذي حققته العربية الأميركية ريما فقيه، والتي سيضاف اسمها على اللائحة الخاصة بهذه المدينة، والقائمة عند مداخل المدينة، فقد أعلن رئيس بلدية ديربورن جاك أورايلي أثناء استقباله لملكة الجمال فقيه، أنه ستضاف تحت عبارة “أهلا بكم في ديربورن” عبارة تقول “مدينة ريما فقيه، ملكة جمال أميركا العام 2010”.
وهكذا لم ينتبه العرب ومعهم الأميركيون إلى التفكير بأصول اسم المدينة، إلا أنهم جميعا يعرفون الآن أن هذه المدينة هي مدينة ريما فقيه، وأنها المدينة التي قدمت للولايات المتحدة أول ملكة جمال من أصول عربية ومسلمة.
هكذا تنتصر ريما فقيه على الجنرال هنري ديربورن، وهذا انتصار للجمال على القوة، بكل بساطة.
وفي نهاية هذا المقال، أودعكم كما ستودع مدينة ديربورن زائريها في الأيام القادمة: “رافقتكم السلامة من مدينة ديربورن، مدينة ريما فقيه، ملكة جمال أميركا العام 2010”!
Leave a Reply