شهدنا في الفترة الماضية تفسيراتٍ مختلفة للتراجع الحاصل في عموم المنطقة العربية، وللهواجس التي تشغل الآن بالَ كلّ إنسانٍ عربي، لكن قلّة من هذه التفسيرات تضع الإصبع على الجرح العربيِّ الأكبر. فأساس المشكلة هو أصلاً بالمجتمعات العربية نفسها، وبكلِّ من فيها.
فأين العرب الآن من المكوّنات الأساسية لمجتمعاتهم، والتي تقوم على الوطنية والعروبة والإيمان الديني؟. فالرسالات السماوية تدعو إلى التوحّد ونبذ الفرقة. والعروبة تعني التكامل ورفض الانقسام. والوطنية هي تجسيد لمعنى المواطنة والوحدة الوطنية. فأين العرب من ذلك كلّه؟
إنّ غياب الفهم الصّحيح للدّين والفقه المذهبي ولمسألة الهُويّة وللعلاقة مع الآخر أيّاً كان، هو المناخ المناسب لأيّ صراع طائفي أو مذهبي أو إثني يُحوّل ما هو إيجابي قائم على الاختلاف والتّعدّد إلى عنفٍ دموي يُناقض جوهر الرّسالات السّماويّة والفهم السليم للهُوية الثقافية العربية، ويحقّق غايات الطامحين للسيطرة على العرب وعلى أرضهم ومقدّراتهم!.
فإعفاء النفس العربيّة من المسؤوليّة هو مغالطة كبيرة تساهم في خدمة الطّامعين بهذه الأمّة وتسهيل مهمة العاملين على شرذمتها، كما إنّ عدم الاعتراف بالمسؤوليّة العربيّة المباشرة عن واقع الحال السيء، فيه تثبيت لعناصر الخلل والضّعف وللمفاهيم التي تغذّي الصّراعات والانقسامات.
هناك في التراث الفكري العربي المعاصر ما فيه «خارطة طريق» من أجل الوصول إلى ينابيع الفكر السليم والقدوة الحسنة من أجل بناء مجتمعات عربية صحّية، تستوعب اختلافاتها وتنوعاتها وتقبل وجود «الآخر» وحقوقه ودوره المشارك كمواطن في وطن يقوم على مفهوم «المواطنة»، لا على مفاهيم «الأكثرية والأقلية».
صحيح أن العرب لم يصلوا بعد إلى قاع المنحدر، وبأنّه ما زال أمامهم مخاطر كثيرة قبل أن تتّضح صورة مستقبلهم، لكن رغم وجود هذه المخاطر فعلاً، فإنّ ما تشهده الآن بلاد العرب من أفكار وممارسات سياسية خاطئة باسم الدين والطائفة أو «الهُويّات الإثنية» يمكن أن يكون هو ذاته، خلال الفترة القادمة، الدافع لتحقيق الإصلاح الجذري المطلوب في الفكر والممارسة، في الحكم وفي المعارضة. فقيمة الشيء لا تتأتّى إلاّ بعد فقدانه، والأمّة هي الآن عطشى لما هو بديل للحالة الراهنة من أفكار وممارسات سيّئة.
هذه ليست مجرّد تمنيّات، بل هي خلاصة تجارب شعوب أخرى، كالأوروبيين الذين خاضوا في النصف الأول من القرن الماضي حربين عالمتين دمّرتا أوروبا وسقط نتيجتهما ضحايا بالملايين، وكانت بين شعوب الدول الأوروبية صراعات قومية وإثنية وطائفية أكثر بكثير مما تشهده الآن المجتمعات العربية. رغم ذلك، وحينما توفّرت الظروف والقيادات والرؤى السليمة، طوت أوروبا صفحات الماضي المشين بينها واتّجهت نحو التوحّد والتكامل بين شعوبها، متجاوزةً ما بينها من خلافات في المصالح والسياسات، واختلافات في اللغات والثقافات والأعراق.
أوروبا شهدت أيضاً في النصف الأول من القرن الماضي تجارب فكرية وحزبية سيّئة، كالنازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا، ودفعت القارّة الأوروبية كلّها ثمناً باهظاً لسياسات هذه التجارب السيئة. لكن هذا «النموذج الأوروبي» في التقاتل والتصارع أولاً، ثمّ في التكامل والتوحّد لاحقاً، احتاج طبعاً إلى مناخ سياسي ديمقراطي داخلي، على مستوى الحكم والمجتمع معاً، ممّا سمح بحدوث التحوّل الكبير. فالمسألة ليست فقط انتخابات وآليات للممارسة الديمقراطية الشكلية، لأنّ هذه، إذا لم تقترن بثقافة ديمقراطية سليمة داخل المجتمع نفسه، قد تزيد الأمور تعقيداً، كما جرى في تجربتيْ ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية.
إنّ نقد الواقع ورفض سلبياته هو مدخل صحيح لبناء وضعٍ أفضل، لكنْ حين لا تحضر بمخيّلة الإنسان العربي صورة أفضل بديلة لواقعه، تكون النتيجة الحتمية هي تسليمه بالواقع تحت أعذار اليأس والإحباط وتعذُّر وجود البديل!. وكذلك المشكلة هي كبرى حينما يكون هناك عمل، لكنّه عشوائي فقط أو في غير الاتجاه الصحيح.
لقد كان من الطبيعي أن يتحرّك الشارع العربي وأن ينتفض ثائراً لإنهاء حالات الفساد والاستبداد، لكن المشكلة أنّ بعض الحركات السياسية المشاركة في الثورات الشعبية تحتاج هي نفسها إلى آفاق فكرية واضحة المعالم، وإلى أطر تنظيمية سليمة البناء، وإلى قيادات مخلصة للأهداف..
أيضاً، فإنّ الواقع العربي الراهن تختلط فيه مفاهيم كثيرة لم تُحسَم بعدُ فكرياً أو سياسياً. وهذه المفاهيم هي أساس مهم في الحركة والتنظيم والأساليب، كما هي في الأفكار والغايات والأهداف. فما هو الموقف من التعدّدية بمختلف أنواعها الفكرية والسياسية والدينية والإثنية داخل المجتمع؟ وما هي النظرة السليمة للعلاقة بين الدين والدولة؟ وهل الإسلام هو «دين ودولة»، أم «دين ومجتمع»؟ وما هي العلاقة بين حرّية الوطن وبين حرّية المواطنين؟ وكيف يمكن الجمع بين الديمقراطية وبين الحفاظ على وحدة النسيج الاجتماعي في كلّ بلد؟ وهل طريق الديمقراطية يمرّ في تجزئة الكيانات؟ ثمّ ما هي آفاق التغييرات الحاصلة من حيث العلاقة مع إسرائيل، وهل ستكون «الشرق أوسطية» هي الإطار الجامع لدول المنطقة مستقبلاً أم ستكون هناك خطوات جدّية نحو تكامل عربي شامل يعزّز الهويّة العربية المشتركة ويأخذ بالنموذج الاتحادي الأوروبي كصيغة مستقبلية للعلاقة بين الدول العربية؟
هذه التساؤلات من المهمّ التوافق الوطني والعربي العام حول ضرورة التعامل معها الآن وحول كيفية الوصول إلى أفضل الإجابات الممكنة عنها.
لكن من المهمّ أيضاً الاتفاق على ضرروة وقف العنف المسلّح في أي عملية تغيير سياسي أو اجتماعي، إذ في غياب توفّر مقوّمات نظام سياسي ديمقراطي، فإنّ أيَّ أسلوبٍ عنفي لتغييرٍ ما في الأنظمة قد يتحوّل إلى أداة تفجير للمجتمع وللأوطان نفسها.
كذلك، فإنّ عدم الالتزام بأساليب التغيير الديمقراطية يعني تحويراً للانقسامات السياسية السلمية نحو مساراتٍ عنيفة. فالانقسامات السلمية الصحّية في المجتمعات تحتاج لضمانات التغيير الديمقراطي من قِبَل الحاكمين والمعارضين معاً.
وقد يساعد، في تعميق هذه الخلاصات، والإجابة عن التساؤلات، فرزٌ مهمٌّ حدوثه لدى المنشغلين في هموم تغيير المجتمعات. فبمقدور المجتمعات العربية أن تحقّق خطواتٍ إيجابية أوسع لو وضعت باعتبارها الآتي:
1- التمييز المطلوب في العمل السياسي ما بين تغيير الحكومات وبين مخاطر تفكيك الكيانات الوطنية. فالخلط بين النظام الحاكم والكيان الوطني الواحد هو خطرٌ على الوطن كلّه. لذلك التمييز ضروري بين تغيير أشخاص وسلطات وقوانين وبين تهديم أسس الكيان الوطني والمؤسسات العامة في الدولة.
2- التمييز بين الطائفة أو المذهب، وبين الطائفية والمذهبية. فالحالة الأولى هي ظاهرة طبيعية إنسانية موجودة في أكثر من مجتمع يقوم على التعدّدية. أمّا الحالة الثانية، فهي ظاهرة مرَضيَّة تؤدّي إلى تفكّك المجتمع وضعفه وانقسامه.
3- التمييز بين الاعتزاز بالوطنية المحليّة، وبين الانعزاليّة الإقليمية التي لا تحقّق أمناً ولا تصنع وطناً قادراً على العيش في عصر العولمة والتكتلات الكبرى. وكما التمييز مطلوبٌ بين الحرص على الولاء الوطني وبين التقوقع الإقليمي، فإنّ من المهم أيضاً التمييز بين الانفتاح على الخارج وبين التبعيّة له.
التمييز مطلوبٌ بين قدرتنا كعرب على تصحيح انقساماتنا الجغرافية من أجل حاضرنا ومستقبلنا، وبين انقساماتنا التاريخية في الماضي التي ما زلنا نحملها معنا جيلاً بعد جيل، ولا قدرة لنا أصلاً على تغييرها!
Leave a Reply