محمد العزير
أما وقد دخل الغزو الروسي الوقح لأوكرانيا أسبوعه الرابع، دون أن يحقق أياً من أهدافه. أما وقد أعادت روسيا –نفسها– تكرار الدرس نفسه بأن السلاح النووي يخيف لكنه لا يفيد (كما حصل مع أميركا في كوريا وفيتنام والعراق وأفغانستان، وكما حصل مع الاتحاد السوفياتي السابق في أفغانستان وإزاء انهياره الذاتي)، أصبح من الممكن طرح أسئلة ملحّة عن مآلات الأحلام القيصرية لفلاديمير بوتين الذي كان منذ بداية القرن الحادي والعشرين النموذج المحتذى للحكام المستبدين في العالم وإن تفاوتت حالاتهم بين أوتوقراطية دينية كما في ايران، أو شبه دينية كما في تركيا، أو ديكتاتورية عارية كما في كوريا الشمالية وسوريا وميانمار والجمهوريات الآسيوية من المخلفات السوفياتية، أو أنظمة أحادية كما في فنزويلا ونيكاراغوا ومصر والجزائر، (للصين اعتبارات ومواصفات أخرى وإن كان فيها الكثير من الملامح السابقة).
خلال بضعة أيام كشفت شجاعة الشعب الأوكراني الذي ثار مرتين خلال عقد من الزمن؛ «ثورة البرتقال» عام 2004 التي أطاحت الإرث السوفياتي، و«ثورة الكرامة» عام 2014، التي أطاحت نظام الدمية الروسي برئاسة فيكتور يانوكوفيتش وفتحت الباب أمام حياة سياسية ديمقراطية، رد عليها بوتين في حينه باحتلال جزيرة القرم وضمها إلى روسيا وتشجيع منطقتين حدوديتين (دونيتسك ولوغانسك اللتين أعلنتا نفسيهما جمهوريتين لا تعترف بهما سوى روسيا وبيلاروسيا وسوريا) على الانفصال من خلال التدخل العسكري المباشر تحت قناع المعارضين لحكم كييف من الناطقين بالروسية، على طريقة أدولف هتلر والـ«سوديتين لاند» في تشيكوسلوفاكيا عشية الحرب العالمية الثانية. بدت واضحة هشاشة القوة الروسية التي كان الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي والقرصنة الإلكترونية والتهافت اليميني الأبيض في أوروبا وأميركا في خدمتها لتلميع صورتها ومساعدة الصناعات العسكرية الروسية إلى درجة أغرت حلفاء أميركا التقليديين من تركيا إلى دول الخليج.
خسرت قوات بوتين خلال ثلاثة أسابيع في أوكرانيا أكثر مما خسر الحلف الأطلسي وحلفاؤه في العراق وأفغانستان وسوريا مجتمعين منذ العام 2001. فقدت طائرات الـ«سوخوي» التي طالما عربدت ودمرت أحياءً فوق رؤوس المدنيين في الشيشان وسوريا، هيبتها، وتحولت دبابات الـ«تي» من طرازات 34 إلى 90 وما بينهما إلى أهداف سهلة للأسلحة المضادة للدروع المحمولة على الكتف من الـ«ب–7» البدائية إلى «جافلين» الحديثة. ولم يتمكن الجيش الروسي الذي زج بثمانين بالمئة من عديده وعتاده في حرب يطلق عليها زوراً لقب «عملية خاصة» من احتلال مدينة رئيسية واحدة رغم خسارته عشرة بالمئة من كامل قواته المؤللة، وعشرات الطائرات الحربية والبوارج الحربية، وقبل كل ذلك سقوط أكثر من 12 ألف قتيل من القوات المهاجمة جلّهم لا يعرفون لماذا يشاركون في حرب لا مبرر لها سوى نزوات قائدهم النرجسية. فحتى لو استطاعت القوات الروسية الأكثر عدداً وعدة من اجتياح عاصمة أوكرانيا خلال أيام، لن يكون بمقدور بوتين إعلان النصر الذي فاته في الأسبوع الأول من الحرب حين اعتقد أن الأوكرانيين سيلقون السلاح لمجرد أنه أعلن الحرب.
تقود كل هذه التفاصيل المهمة إلى طرح سؤال متشعب؛ ماذا لو فشل بوتين وجيشه (الذي صار يطلب الدعم من الدول الصديقة بالمتطوعين والإمدادات) في تحقيق الهدف الرئيس من حربه، وهو اطاحة النظام الأوكراني واستبداله بدمية جديدة على وزن يانوكوفيتش؟ لن تقتصر آثار ذلك على روسيا وحدها. علمنا التاريخ أن أنظمة الطغيان تتمادى عندما تنهزم، من هتلر عام 1945 إلى عبد الناصر بعد عام 1956، ثم ومعه نظام البعث السوري عام 1967، ثم نظام بعث صدام حسين عام 1991 (أم المعارك) وصولاً إلى عمر البشير عام 2018، لذلك ليس من الحصافة التوقع أن ينهار نظام بوتين. فهو –بترسانته النووية– قادر على البقاء أسوة برئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون.
في الحالة النووية، وكما بينت التجربة الروسية نفسها، (وأثبتت التجربة الأوكرانية العكس)، دون الحرب على بلد نووي حسابات تختلف عن الحرب على بلدان عربية ومسلمة وغير نووية. لو لم تتخلَ أوكرانيا عن سلاحها النووي طوعاً عام 1994 بموجب اتفاقيات دولية وقعت عليها الولايات المتحدة وروسيا تجزم بعدم التعرض لها من قبل القوى العظمى، لما كان «الديكتاتور الوسيم» قادراً على محاولة احتلالها الوقحة الآن.
تحت عنوان «الاستعداد للهزيمة»، كتب الأكاديمي الأميركي الشهير والمعروف بصلاته مع مركز القرار في أميركا والغرب عموماً، صاحب المقولة الأثيرة «نهاية التاريخ»، فرانسيس فوكوياما، متوقعاً هزيمة موصوفة لروسيا في أوكرانيا ستؤدي إلى انهيار عسكري يسلب من بوتين أسباب بقائه في الحكم ويعيد إنعاش الموجة الديمقراطية التي عاشها العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي «بعد أن ألحق ضرراً هائلاً بالشعبويين» من إيطاليا إلى أميركا مروراً بفرنسا والبرازيل وهنغاريا وغيرها سواء أكانوا في السلطة أو خارجها لأن «الحرب كشفت ميولهم الاستبدادية العلنية».
لا شك أن الكثيرين ممن راهنوا على بوتين ونظامه ونموذجه يتحسسون الآن رقابهم أو جيوبهم، وسارع بعضهم إلى إرسال متطوعين لمساندة القوة العظمى ضد جارتها الأصغر. إذ أظهر شريط فيديو نشره الإعلام الحكومي الروسي جنوداً سوريين في منطقة العمليات يهتفون بملء الصوت «بالدم بالروح نفديك يا بشار»، فيما سارع البعض الآخر إلى تحسين شروطه التفاوضية مع واشنطن على منوال فنزويلا، التي أفرجت عن رهينتين أميركيتين الأسبوع الماضي وأبدت مرونة في ضخ كميات من النفط في السوق العالمية للتخفيف من وطأة غياب النفط الروسي، وهنغاريا التي أبدت فتوراً واضحاً في تأييد الغزو.
وفي ظل غياب المخرج السياسي التفاوضي بسبب تعنت بوتين المصرّ على فرض شروطه، سيستمر الغرق الروسي في مستنقع أوكراني صنعه الكرملين الذي عرف، وعرف العالم معه، كيف ابتدأ، لكن لا أحد يعرف كيفية الخروج منه بأقل قدر من الأضرار. ومهما كانت النتيجة الميدانية، وبصرف النظر عن مآلات مسعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي لا يكره المعتدين كثيراً ويضحي بالضعفاء من أجل تسجيل نقاط دبلوماسية لم يكتسبها هذه المرة في موسكو رغم تهافته غير المبرر، يمكن تلخيص ما تحقق حتى الآن في النقاط الآتية:
1– إعادة الزعامة الدولية إلى واشنطن على رأس غرب موحد بعد سنوات التردد الأوبامي والحماقة الترامبية.
2– انكشاف روسيا كدولة ريعية غير قادرة على تأمين الوقود والعتاد لقواتها التي استعدت مطولاً لحرب اعتقدت أنها ستكون نزهة.
3– عودة الحياة إلى التوجه الديمقراطي التعددي في العالم والذي خنقته واشنطن بعد الهجمات الإرهابية على نيويورك وواشنطن عام 2001، وابتزته تجارب الرجال الأقوياء طوال أكثر من عقدين بشّرت خلالهما الصين وروسيا بالنموذج «الاستبدادي» البديل.
4– عودة مصداقية إرادة الشعوب، حيث سطّر الشعب الأوكراني ملحمة «قيامية» في وجه قوة عاتية لعبت دوراً دموياً خبيثاً في التصدي لطموحات البشر إلى درجة دفعت بوتين إلى القول إن ليس في قاموسه شيء أسمه ثورة (طبعاً بعد مساهمته المباشرة في وأد «الربيع العربي»).
من المبكر جداً التبشير بغد ديمقراطي واعد بسبب الفشل الروسي المتوقع في أوكرانيا. الأمر أبعد من ذلك، ويبدأ من واشنطن ولندن وباريس وبرلين. يبدأ حيث تنتهي سياسات التوسع الاستهلاكي لشركات النهب الكبرى ودعم المعتدين على حقوق الشعوب بدءاً من فلسطين ووصولاً إلى الروهينغا في ميانمار والإيغور في إقليم تشينجيانغ الصيني وملايين اللاجئين السوريين والعراقيين واليمنيين والليبيين الهائمين على وجوههم براً وبحراً.
يبقى السؤال؛ هل ستكون أوكرانيا فاتحة لمسار جديد من التحرر والديمقراطية؟ هل نحن أمام موعد جديد مع التاريخ؟
Leave a Reply