محمد العزير
أقل ما يقال في الاجتياح العسكري الروسي لدولة أوكرانيا أنه اغتصاب معلن في وضح النهار، استقواء دولة نووية كبرى على دولة تخلت طوعاً عن سلاحها النووي عندما انهار الاتحاد السوفياتي كتجربة بائسة لاشتراكية ملتبسة لم تتعلم من كارل ماركس وفريديك أنغلز شيئاً إلّا صورهما الشخصية، وأقتبست من «العدو» الرأسمالي أحط ما فيه؛ البيروقراطية والبوليسية. لا يمكن لعاقل أن يبرر أو يعلّل فعلة الديكتاتور «الوسيم» فلاديمير بوتين الذي قرر منفرداً، وبلا سبب أو حدث، أن يغزو دولة ذات سيادة، عضواً في الأمم المتحدة، ولدى نظامها من مقومات الديمقراطية أكثر مما في روسيا نفسها أو لدى حلفاء بوتين في مخلفات الجمهوريات السوفياتية السابقة والصين وميانمار وإيران وسوريا…
على قاعدة «حجة القوي دائماً أقوى» عزم بوتين على مغامرته التي تفتقر إلى معطى مهم في مبادرة ليونيد بريجنيف عام 1979 لغزو أفغانستان. ليس في أوكرانيا نظام موالٍ يطلب نجدة موسكو، فقط لأنه يتوهم كما تبين في خطاباته الممهدة للحرب والمعلنة لها، أن بمقدوره أن يعيد عجلة التاريخ إلى القرن السابق وما قبله عندما كانت روسيا القيصرية قطباً رئيسياً في المسرح الأوروبي، يمكنها من خلال تحالفاتها «المقدسة» و«الفاجرة» أن تتلاعب بمصائر شعوب ودول حسب أهواء القيصر، أو في أحسن الأحوال لتعزيز موقفها التفاوضي مع الأقطاب الآخرين.
اكتشفت روسيا القيصرية في الحرب العالمية الأولى (1914–1918) أنها دولة إقطاعية متخلفة ذات اقتصاد زراعي لا يجاري قدرات دول أوروبا الغربية التي استثمرت في الثورة الصناعية وطوّعتها. كان جنود القيصر (الذي كان يتباهى، ولا بد، بهزيمة نابليون قبل 100 سنة) يموتون على الجبهات من البرد والجوع ونقص الدواء والإمدادات. مهّد ذلك للثورة الأولى التي استغلها فلاديمير لينين بانتهازية بارعة مدججة بأيديولوجية برّاقة ليبدأ المشروع الشيوعي البروليتاري (نظرياً) والذي تحول بهمة الرفاق أعضاء اللجنة المركزية والمكتب السياسي (الذين يفضلون سيارات «رولز رويس» الفاخرة لتنقلاتهم من أجل الطبقة العاملة) إلى أكبر مشروع قمعي في التاريخ البشري، لم يجارِه سوى المشروع النازي في المانيا، دموية ورعباً.
لا يمكن لهذه العجالة أن تفند التاريخ الروسي بشقيه القيصري والسوفياتي، لكن لمحة خاطفة إلى ذلك التاريخ تفيد في تظهير الموقف الأوروبي الغربي وامتداداته الأميركية القارية والأسترالية (قبل أن تنتقل المرجعية إلى واشنطن) وهو موقف ينطلق من العنصرية الأصيلة في الوجدان الأوروبي، العنصرية الأنكلوساكسونية (حصراً) وشقيقاتها الغالية، الفرانكية، الرومية، الميغلونية، والإسبانية، والتي تحتقر بدرجات متفاوتة شعوب العالم انطلاقاً من أوروبا نفسها حيث النظرة الدونية إلى العرق السلافي والأقليات الإثنية، كما تتنابذ فيما بينها أيضاً. سرعان ما استنفرت هذه العنصرية وانقضت بكل زخم الاستعمار المطعون في حينه على التجربة السوفياتية الوليدة فارضة على روسيا حرباً أهلية دموية تحولت لاحقاً إلى حصار استمر حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية.
عندما واجهت أوروبا التقليدية الخطر النازي الداهم الذي تحالف معه ستالين أول الأمر ليتقاسم مع هتلر دولة بولندا، قبل أن تصبح روسيا الهدف النازي الأهم، اختارت قيادة الحلفاء الاعتماد على المدد الروسي القادر جغرافياً وديموغرافياً وعسكرياً على وقف المد الألماني.
رُفع الحصار عن «البعبع الشيوعي» وتدفقت المساعدات المالية والتقنية والاستخبارية على موسكو، وبين ليلة وضحاها تحول ستالين من ديكتاتور بغيض إلى نجم دولي ينافس هتلر كاريزميةً ونجومية لأنه كان مستعداً، وقد فعل، للقتال حتى آخر روسي. (تجاوز عدد الضحايا عشرين مليوناً، أي حوالي ثلث كل ضحايا الحرب العالمية الثانية، بينما بلغ عدد ضحايا بريطانيا مثلاً 451 الفاً).
سرعان ما عادت أوروبا غير السلافية بعد التخلص من هتلر، وهذه المرة بقيادة أميركية واضحة وكاسحة (لم تجد على سبيل المثال غضاضة في التحالف مع الجنرال فرانسيسكو فرانكو ديكتاتور إسبانيا الدموي)، إلى عادتها القديمة فنشبت الحرب الباردة التي حاولت من خلالها حكومات «الغرب»، ومن خلال حروب غير مباشرة، استعادة نفوذها المتلاشي بالمفرق، مما كسبه ستالين بالجملة، وعاد الستار الحديدي الذي صمد حتى نهاية الحرب الباردة عندما انهارت التجربة السوفياتية تحت وطأة أزماتها الداخلية، في حين كانت التجربة الرأسمالية تحمي نفسها بحزام ديكتاتوري يمتد من التشيلي على تخوم المحيط المتجمد الجنوبي إلى اليونان وتركيا على مياه البحر الأبيض المتوسط الدافئة، وتحمي في طريقها نظامين عنصريين فاضحين في جنوب أفريقيا وفلسطين المحتلة. (استخدمت أميركا حق النقض «الفيتو» في مجلس الأمن الدولي حتى العام 1989، أكثر من ستين مرة معظمها –مناصفة تقريباً– لحماية نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وكيان الاحتلال في فلسطين)، فيما كانت سياستها المعلنة ودعايتها الفعّالة تستهلك شعارات حقوق الإنسان والديمقراطية وحرية التعبير أكثر مما كانت تستهلك دولها من موارد العالم الثالث من الموز إلى النفط وما بينهما من موبقات.
انقضت أميركا وخلفها «الغرب» في العقد قبل الأخير من القرن العشرين، وفور التخلي الروسي الطوعي عن الكيان السوفياتي، على أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى كوحش مفترس نهم وجائع، فيما كانت نخبها الأكاديمية والفكرية تجتهد وتكدّ لتحقيق هدفين خبيثين في غاية الأهمية؛ تمثّل الأول في اجتراح عدو عالمي جديد يعوض خسارة «البعبع» الشيوعي فكان الإسلام «الإرهابي» الذي كان الطفل المدلل للمخابرات الأميركية والغربية، لغايته، وانكب الثاني على كيفية تسييل و«تقريش» الحدث التاريخي المهول لتظهيره كانتصار ناجز للنمط الرأسمالي. سيطر على المشهد في حينه ما سمي بـ«المحافظين الجدد»، وهم بالفعل من كهّان معبد السياسة الخارجية التي قادتها «سي آي أي» ولو كانوا من حملة الدرجات والألقاب الجامعية، ومن مريدي السيء الذكر هنري كيسينجر، أمثال صموئيل هانينغتون وبول وولفويتز وناثان غلايزر ودونالد كاغان وآندرو روبرتس، وربيبهم صاحب «نهاية التاريخ» فرانسيس فوكوياما، الذي اعتقد في حمأة اللحظة أنه قادر على تسفيه كارل ماركس ونظرية الحتمية التاريخية، ليكتشف مع معلمه هانينغتون بعد غزو العراق أن ما تراءى لهم في مكاتبهم الفخمة التي تمولها مراكز أبحاث تموّلها الشركات الكبرى كان مجرد أضغاث أحلام.
وعلى خط متواز انطلقت السياسة الأميركية، وتالياً الغربية، المبشرة بانتصار الشعارات الفارغة التي لم تنطبق يوماً على شعوب أميركا وأوروبا البيضاء إن لم يكونوا بيضاً من أصول أوروبية، وانطلقت الشركات المتعددة الجنسيات لتلتهم كل ما في طريقها من موارد. وبين سياسيين يتسابقون على تهنئة أنفسهم بانتصار مزعوم وبين شركات ومصارف يسيل لعابها السّام على فريسة ضخمة ضاعت فرصة تاريخية هائلة كان بمقدور أميركا و«الغرب» معها أن تعيد صياغة النظام العالمي بشكل يحقق ما كانت تدعو إليه من حقوق إنسان وديمقراطية وحرية، لكن ذلك في علم السياسة يسمى طوباوية.
أميركا التي تتباهى ببراغماتيتها لم تكن في هذا الوارد. كانت تريد المزيد من الهيمنة الخارجية دولياً وجلب المزيد من رؤوس الأموال داخلياً فانفتحت مغارة علي بابا على المسؤولين الروس الكبار الذين تحولوا في غمضة عين من «بروليتاريا» إلى «أوليغارشيا» وغضّت واشنطن ولندن والغرب الطرف ما داموا يسرقون بلادهم ليودعوا أموالهم في المصارف والاستثمارات «الغربية».
خير دليل على ذلك ما قاله الرئيس الأميركي في خطاب «حال الاتحاد»، الثلاثاء الماضي، وهو يستعرض الموقف من الاجتياح الروسي لأوكرانيا. خاطب الرئيس جو بايدن الأوليغارشيين الروس الذين راكموا مليارات الدولارات من خلال نظام بوتين قائلاً: «كفى».
لو كان هذا الموقف معلناً وصادقاً قبل ثلاثة عقود لما كانت روسيا تحت نير ديكتاتورية بوتين ولما كانت أوكرانيا اليوم تحت رحمته.
يتبع…
Leave a Reply