قبل أن يتم تنفيذ أحكام الإعدام بحق معظم أعضاء اللجنة المركزية بأيام كنت هناك في عدن وكان الحر شديداً ولهاباً فهربت إلى مدينة تعز حيث النسائم العليلة الباردة ولا أدري ما الذي دفعني لترك عدن حيث وقعت المجزرة الرهيبة فيها والتوجه إلى مدينة تعز.اتصل بي أحد قراء هذه الجريدة الرائدة وقال لي: أرجو أن يتسع صدرك كي أطرح عليك أكثر من سؤال وأن تجيبني على سؤال أوأكثر، وأن تساعدني للوصول إلى كبد الحقيقة إذا أمكن. قلت له: تفضل. قال: هل لك أن تقول لنا من الذي اغتال القيادي اليمني عبد الفتاح إسماعيل؟ وما هي أسباب ذلك الإغتيال؟ وهل للرئيس السابق علي ناصر محمد علاقة ما بعملية الإغتيال هذه؟ وما هي الدوافع يا ترى؟ هذا نموذج من الأسئلة التي طرحت عليّ من قبل بعض الأخوة أبناء العروبة الذين يقيمون هنا ومنذ وقت طويل. إن جوابي على هذه التساؤلات ينحصر في قولي:
لم أكن شاهداً على ما حدث! أولا، لم أكن شاهداً على ما حدث ولا أملك حق توجيه التهمة إلى أي إنسان آخر، ولست قاضياً أوكلت إليّ مهمة الحكم، أو محاكمة الذين قاموا بعمل من هذا النوع وليست لدي أية معطيات تساعدني على الجزم أو على تحديد هوية القاتل ومن هو وما هي الدوافع، ولست أملك أية معلومات تشير إلى الذين ارتكبوا مثل هذا العمل أو إلى الذين حرضوا على تنفيذ عملية الإغتيال، وأسبابه. ولا يمكن للمرء أن يحدد أو أن يشير بأصبع الإتهام إلى إنسان آخر، ما دام الأمر يفتقر إلى الأدلة الدافعة والقرائن والشواهد والبينات.
ولست قاضياًلأن جميع القوانين السماوية، والقوانين الوضعية والنوايا الجرمية الواضحة اشترطت أن تقترن الأفعال بالأدلة والبراهين وما دمت افتقر إلى تلك الأدلة والشواهد، فلا أستطيع أنا ولا غيري أن يتهم أحدا من الناس، إلا بعد أن تتوفر تلك القرائن التي ذكرتها آنفا.غير أن الذي يمكن لي أن أقوله: بأن هناك أكثر من رواية رويت، وأكثر من قصة انتشرت، وبقيت الحقيقة تائهة بين الأرض والسماء. غير أن قصة واحدة من هذه القصص، كان لها نصيباً من الحديث عنها قصة كانت نتائجها حزينة ومحزنة وإن كنت أنا شخصياً لا أتبناها ولا أقر بأنها تعبر عما جرى وحدث، أو أنها ذات علاقة وطيدة بالحقيقة بل كل ما في الأمر أن الرواة رووا، وكرروا الرواية أكثر من مرة، حتى بات البعض يؤمن أو يصدق بأنها هي الحقيقة وهي الواقع الذي لا «يختلف عليه أكثر من مواطن».
أعداء العروبة وما أكثرهموالأمر الذي شك فيه أن أعداء العروبة والإسلام بل أعداء الشعوب استطاعوا أن يمزقوا الأمة إلى شعوب وقبائل وإلى دويلات وإلى أحزاب وجماعات كما استطاعوا أن يبثوا في مجتمعاتنا الإنسانية أبشع انواع السموم وأن ينشروا في صفوفنا أرذل أنواع الخلافات وأكثرها هدماً وتدميراً للنفوس كما استطاعوا أن يزرعوا في ثنايا نفوسنا أفتك الفتن وأشدها دماراً وتخريباً. لذلك رأينا كيف أن البلدان العربية والشعوب الإسلامية، قد تمزقت وتفتتت مكوناتها كما تمكنوا من إحياء الكراهية والبغضاء في أعماق النفس البشرية والأنكى من هذا كله، أنه ومنذ ما لا يقل عن مئة عام حتى الأمس القريب لم تتعرض أمتنا إلى تمزيق شديد كما هو قائما اليوم ولم تعرف هذه الأمة من خليجها إلى محيطها أمواجاً من الأحقاد والكراهية والعصبيات اللعينة المدمرة التي عرفناها اليوم، كل ذلك كان نتيجة حتمية إلى المساعي الحاقدة لنشر التفرقة وتمزيق وحدة الصف العربي في ربوع هذه الأمة التي نسأله تعالى أن يصونها مما هو مرعب ومخيف.
وأعداء الشعوبوما حدث ويحدث في أرجاء الوطن العربي ليس إلا دليلا ساطعاً على أن ما حصل في عدن وبين أبناء الوطن الواحد، ما كان إلا نموذجاً حياً لما تم زرعه في أعماق النفوس من كراهية وأحقاد. صراعات بين أبناء الوطن الواحد والمعتقد الواحد والهدف الواحد بل بين رفاق الدرب الطويل والكفاح درب السلاح التي اسفرت عن إنشطار القوى الوطنية التي وحدها القتال ضد البريطانيين المحتلين الغزاة، ونظمم صفوفها هدف واحد ألا وهو إنقاذ الجنوب العربي المحتل يومئذ وتحريره من براثن ومخالب الإستعمار البريطاني وعملائه في عدن وبقية سلطنات الجنوب التي أحكمت بريطانيا قبضتها الحديدية حول رقاب الشعب في تلك الأجزاء العزيزة على قلوبنا من الوطن العربي الكبير.
أول الغيث قطرة ثم ينهمر!لا أستطيع الجزم بأن هذه القصة التي سمعتها وأنا في تعز القريبة من عدن، وعلى لسان أحد القادمين إليها من عدن بأنها قصة حقيقية قد تكون غير ذلك وقد تكون من نسيج الخيال الخصب وقد تكون من النوع المشوّق وقد لا تكون من هذا ولا من ذاك إطلاقاً، وربما كانت أسلوباً من الأساليب الروائية البوليسية ليس إلا وقد لا تكون.
مؤامرات على مدّ عينك والنظرقيل لي ساعتئذ: لم يكن الرئيس علي ناصر محمد يجهل ما يُحاك ضده من محاولات ومؤامرات، تهدف كلها إلى تصفيته سراعاً وإنقاذ الوطن عدن والجنوب وشعبه من سيطرة علي ناصر محمد، ومن يواليه من أزلام ومحاسيب وأنصار، بل كان وهو الرئيس علي ناصر محمد يعرف تماماً أن القوم لا يودونه ولا يريدون له أن يستمر في الحكم طويلا وكان يلم إلماماً بيناً بكل شاردة وواردة مما يحاك ضده وضد نظامه من قبل رفاق الأمس، رفاق الدرب الطويل ورفاق السلاح، أعداء اليوم.لذا رأينا الرئيس علي ناصر محمد يمنح ترخيصاً لشركة فرنسية الأصول والفروع، بأن تبني فندقاً فخماً وأن تنشئ مطارا حديثاً وكازينو، وكل ذلك طبعاً سيكون من الدرجة الأولى، ومن ذوي النجوم الخمس.الفتنة أشد من القتللدرجة أن خصوم الرئيس علي ناصر محمد اتهموه يومئذ بأنه باع الموقع إلى شركة فرنسية وأنه بات برجوازيا ومن الدرجة الأولى وكان موقع هذه المنشآت كلها في منطقة خورمكسر حيث الشاطئ اللازودي وحيث يطل هذا الشاطئ بمياهه الصافية على قسم من بحر العرب. لم يكن إتهام الرئيس علي ناصر محمد بأنه بات برجوازياً محصورا بخصومه وحسب بل تعدى الأمر إلى بقية الشلل والمجموعات التي كانت تلتقي في أكثر من فندق في عدن وفي صالونات تلك الفنادق التي اكتست بصفة حضارية واستمرت كذلك حتى حصول الكارثة.
لكل نظام أصدقاء وأعداءلقد سبق لهذه الشلل أن التقت كلها في فندق واحد وكلها اليوم تريد إنهاء حكم ونظام علي ناصر محمد وطي صفحة نظامه إلى الأبد، وكانت تلك الشلل كلها تضمر العداء والكراهية للرئيس علي ناصر محمد وتنتظر الفرصة السانحة للإنقضاض عليه وعلى نظامه بأي شكل من الأشكال. وقيل لي: إنه ولأسباب لم تتضح حتى اليوم، تلقى الرئيس علي ناصر محمد دعوة من الرئيس مخبيستو هيلا مريام زعيم الإنقلاب الشيوعي على نظام الأمبراطور هيلا سلاسي وعلى أهل نظامه. فتوجه الرئيس اليمني إلى أديس أبابا تلبية لدعوة تلقاها من قائد الإنقلاب الشيوعي في الحبشة.
ناصر يلغي زيارته لأثيوبيا وحينما كان الرئيس علي ناصر محمد في زيارته الرسمية لأديس أبابا تلقى عدة تقارير بالشيفرة المعتمدة بين الرئيس اليمني وكبار مسؤوليه تفيده بأن عصبة من الرفاق – رفاق السلاح والنظام والحزب والثورة الواحدة بأن هؤلاء يخططون، ويعدون العدة لإزاحته من الحكم بالقوة، أو بالإغتيال. تلقى الرئيس اليمني هذه الأخبار المشفرة، من كبار موظفيه وجواسيس نظامه ورجال مخابراته وأرصاده المنبثة في كل مكان، وأيقن أنهم يستهدفونه شخصياً ويستهدفون نظام الحكم في البلاد، وأنهم باتوا على مقربة من قاب قوسين من تنفيذ ما يخططون وقبل مغادرة الرئيس العدني أديس أبابا، اختلى بالرئيس مخبيستو هيلا مريام، وكاشفه بأمر التحركات المريبة التي تجري في عدن في الليل والنهار.
عاد فجأة فجأة، عاد بعدها الرئيس علي ناصر محمد من أديس أبابا إلى عدن ليلا دون أن تتبلغ وسائل الإعلام عن هذه المغادرة الفجائية وهذا القطع للزيارة أو أسباب ما حدى لإتخاذ مثل هذه الخطوات الهامة ودون أن تتلقى السلطات اليمنية أو مطارها الدولي أية إشارة عن وصول الرئيس علي ناصر محمد، بل بقي الأمر سراً حتى أصبح الرئيس اليمني وسط قواته المسلحة وضباطه ووسط جماهيره التي فاجأتها عودته إلى أرض الوطن وبدت شوارع عدن خالية من تواجد أية قوات لحفظ النظام، بل بدا الأمر كأنه أمرا عادياً ليس إلا.
مفاجأة غير منتظرةلقد فوجئ القادة والوزراء والنواب والمسؤولين بعودة علي ناصر محمد من أديس ابابا فجأة دونما سابق إشارة أو إنذار بل بدا مرتاحاً بالفعل، ولقد أيقن الرئيس اليمني أن القوم يريدون خلعه من سدة الحكم وأيقن أن الأمر لم يعد يحتمل أي تسويف أو تأجيل. لذا رأيناه يوجه دعوة سريعة إلى أعضاء اللجنة المركزية التي تضم عبد الفتاح إسماعيل الذي كان رأس هذه اللجنة وجميع الوزراء وقادة الفصائل الحزبية، فأبلغوا الرئيس ناصر بموافقتهم على عقد وحضور هذه الجلسة، وقالوا أنهم سيحضرونها بدون أي تأخير ولن يتخلف منهم عن الحضور أحد.وهذا الإجماع على حضور الجلسة كان كل ما يتمناه الرئيس علي ناصر محمد وأن يتم الأمر ويلتقي بـ«أحبائه» أعضاء اللجنة المركزية و«يستأنس» بأرائهم ويطلع على ما لديهم من قضايا وأمور وطنية و«ليتساعدوا» جميعا لإيجاد الحلول المناسبة لها.
الوضع مخيفالصورة الآن كما يلي: وفي لقاء سريع لأعضاء اللجنة المركزية بالرئيس علي ناصر محمد، رحب أعضاء اللجنة المركزية بالرئيس اليمني علي ناصر محمد وهنأوه بسلامة العودة إلى الوطن وقد اعتذر لهم عن عودته المفاجأة بسبب عارض صحي طرأ على صحة الرئيس مخبيستو هيلا مريام الأمر الذي أدى إلى تأجيل المواعيد الى زيارة لاحقة.
شاي قبل الإعداموبعد ترحيبهم، أخذوا يتوافدون إلى مقر اللجنة المركزية لعقد الإجتماع. وكما جرت العادة، سابقاً كان من واجبات الحارس الشخصي للرئيس علي ناصر محمد، وحينما تكون هناك جلسة ستعقد بعد أقل من ساعة، كان من واجبات هذا الحارس أن يأتي ببراد من الشاي وعدة فناجين كي يتناول الحضور الشاي، جاء الحارس الشخصي وأفادهم أن الرئيس سيصل إلى المقر بعد دقائق وقدم لهم الشاي ثانية، وقد تأكد للحضور أن الرئيس علي ناصر محمد سيدخل القاعة بعد قليل وقد أخذ أعضاء اللجنة المركزية كل مقعده بقي الحارس واقفاً يقدم الشاي للحضور.
المجزرة تنفيذاً للتعليمات السريةوصلت سيارة الرئاسة لم يكن فيها الرئيس علي ناصر محمد وإنما كان وصولها حركة تمويهية لذر الرماد في العيون. أما تعليمات الرئيس علي ناصر محمد إلى حارسه الشخصي فكانت تعليمات سرية لا يمكن البوح بها أبدا تلقاها الحارس الشخصي للرئيس اليمني من فم رئيسه مباشرة وكانت تلك التعليمات تأمر الحارس بأوامر صارمة جداً تقضي بأن يقوم الحارس الشخصي بإعدام جميع الحضور من الوزراء والضباط والقادة، وإبادتهم إبادة جماعية وألا يترك منهم أحدا على قيد الحياة ويكرر إطلاق الرصاص من رشاشه على كل من يتحرك أو أن يحاول الهرب من قريب أو بعيد.حتى هذه اللحظة لم يكن الحارس الشخصي قد أقدم على أية حركة تذكر بل كان منشغلا في تقديم الشاي لمن يريده وهم منهمكون في تبادل أطراف الحديث.
بُرك من الدماءفجأة يا قوم إستدار الحارس الشخصي ولا داعي لذكر إسمه وبين يديه، برشاشه المشحون بأسباب الموت الزؤام وبدأ بإطلاق الرصاص يميناً ويساراً ويدور أينما رأى تحركاً كان يفرغ رصاصات رشاشه على كل من يكون أمامه وبعد أن انتهى الحارس من مهمته تفقد الحضور فلم يجد منهم أحدا يتحرك فأفرغ ما بقي في خزان الرشاش من رصاص، حتى استحالت الغرفة الواسعة إلى ساحة مغطاة بالدماء، ولقد أصيب الجميع برصاص قاتل وكان عددهم حوالي الخمسين شخصاً والذين قتلوا على الفور الوزير علي عنتر وهو وزير للدفاع وأصيب عبد الفتاح إسماعيل بإصابات بالغة لكنه اختفى تحت جثة أحد القتلى متظاهرا بالموت.ومن الذين قتلوا فوراً كان الوزير صالح مصلح القاسم وزير الداخلية، كما أصيب العديد منهم بإصابات مميتة أما على سالم البيض أصيب في بطنه بعدة رصاصات. هرب الحارس بعدها مباشرة بعد أن اطمأن إلى أن الجميع قد ودعوا الدنيا وقد مزقت أجسادهم رشقات عدة من رصاص قاتل لا يرحم.هنا هدأت العاصفة وبدت الساحة ساحة معركة بل مجزرة واستطاع الوزير عبد الفتاح إسماعيل الهرب وتمكن من الصعود إلى إحدى الدبابات، وتوجه بها نحو منطقة التواهي إلا أن القذائف كانت بانتظار هذه الدبابة المسكينة التي أصابتها القذائف واحترقت كما احترق ركابها وفي طليعتهم عبد الفتاح إسماعيل.
هروب الرئيس علي ناصر محمدوحارسه الأمين…بعد أن تمت تصفية جميع أعضاء اللجنة المركزية وعددهم يزيد على الخمسين عضواً، غادر لحظتئذ الرئيس اليمني عدن متوجها إلى محافظة «أبين» حيث أعلن حالة الطوارئ والتعبئة العامة. هنا، وبعد أن خيّم الصمت، وخلت الساحة من الرئيس وحارسه، ولم يبق من الوزراء أحد منهم على قيد الحياة تقدم قائد لواء المدرعات وقائد قاعدة «العند»، وقام بإحتلال جميع الإدارات وكذلك شوارع عدن الرئيسية في وقت كان فيه الرئيس علي ناصر محمد قد وصل إلى «أبين» ومنها توجه إلى مدينة البيضاء، ومن هناك توجه بعدها إلى صنعاء حتى تمت عملية قيام الوحدة بين شطري اليمن ثم غادر بعدها علي ناصر محمد اليمن إلى سوريا، وفي دمشق حيث يقيم فيها حتى اليوم متمنياً أن يعود الهدوء إلى كل بقاع الوطن العربي والسلام وأن تتحقق الوحدة بين مختلف أجزاء الوطن العربي العزيز.
Leave a Reply