يوماً بعد يوم، يكتمل مشهد جريمة قتل جمال خاشقجي. الكل بطبيعة الحال يبدو مهتماً بالتفاصيل. لا شغل لدى الصحافيين سوى نقل التسريبات «السايكوباتية» المرتبطة بتفاصيل استدراج الصحافي السعودي من واشنطن إلى قنصلية بلاده في اسطنبول، والفريق الذي تولّى قتله، وتفاصيل التعذيب والنشر والتقطيع على أنغام الموسيقى… إلى آخر كل تلك المشاهدات «السايكوباتية»، التي تندرج في إطار الإثارة الهادفة إلى زيادة نسبة القراءات والمشاهدات على هذه أو تلك من وسائل الإعلام.
لكنّ خلف المشهدية المرتبطة بعملية القتل ما هو أهم. هي تساؤلات تذهب معها النخب السياسية والأمنية، شرقاً وغرباً، جنوباً وشمالاً، بعيداً عن هرج ومرج الكاميرات المثبّتة أمام القنصلية السعودية في اسطنبول.
جوهر هذه التساؤلات هو: أي مملكة سعودية بعد قتل خاشقجي؟
أيقونة للاستغلال
هكذا تحوّل الصحافي النجم، الذي طالما كان بوقاً إعلامياً لنظام آل سعود، ومطبلاً مدافعاً عن الجرائم الكثيرة التي ارتكبها هذا النظام –والتي من المؤكد أنها طالت زملاء له في المهنة– إلى محور تدور حوله كل التحليلات المتصلة بالتداعيات السياسية لعملية القتل، ولاسيما في ما يتصل بالعلاقات بين مملكة القهر التي تحوّلت مع محمد بن سلمان إلى مملكة مافياوية، وبين دول العالم، ولا سيما في الغرب الذي كان حتى الأمس القريب ينظر إلى ولي العهد السعودي باعتباره «رجل الإصلاح»، ويهلل لسياسات «الانفتاح» التي ينتهجها، والتي لم تعلُ فوق سقف افتتاح دور السينما والسماح للمرأة بقيادة السيارة!
بطبيعة الحال، لن يجد الإعلام الغربي صعوبة في جعل جمال خاشقجي «أيقونة». هو بدأ في ذلك فعلاً، وصوره «المفلترة» بدقة لتعكس ملامح أرستوقراطية، بدأت تغطي على الصور التقليدية التي غالباً ما كان يظهر فيها بالعقال والكوفية، أو تلك القليلة التي استعادتها الآلة الإعلامية التابعة لمحمد بن سلمان والتي تظهره بجلباب إسلامي حاملاً قاذف «آر بي جي» مع «المجاهدين» في أفغانستان!
ليس ذلك سوى عملية تلميع احترافية لصورة أحد صحافيي البلاط، الذي كان حتى الأمس القريب مدافعاً عن قتل اليمنيين، ومحرّضاً على اغتيال رجل دين شيعي مثل نمر النمر، وذلك ليتسنى استغلال الصورة المعدّلة سياسياً، كلّ بحسب أهوائه ومطامعه وطموحاته ومصالحه.
ترامب الأصدق
في الولايات المتحدة، ثمة رغبة واضحة في استغلال قضية خاشقجي إلى أقصى حدود. ولكن بخلاف الحملة الإعلامية النخبوية التي تجعل البعض يتحدث عن عقاب أميركي لمملكة آل سعود، فإنّ دونالد ترامب بدا الأصدق في كل ما يقال. هو لن يضحّي بالبقرة الحلوب، طالما أنها لم تجف بعد، وقد أفصح بذلك صراحة حين قال إن وقف صفقات الأسلحة للسعودية يعني أننا «نعاقب أنفسنا».
على هذا الأساس، فإنّ التصعيد الأميركي المتّصل بتصفية خاشقجي لن يصل إلى حد القطيعة مع السعودية، ولكنه فرصة، أتت لترامب على طبق من ذهب، لتكثيف الضغوط على نظام آل سعود بغرض ضخ المزيد من المليارات السعودية إلى الخزائن الأميركية، وجعل هذا الأمر مستداماً، طالما أنه بالإمكان استغلال «أيقونة» خاشقجي إلى أبعد حد ممكن.
في تركيا أيضاً، من المؤكد أن رجب طيب أردوغان لن يفوت الفرصة الذهبية، وسيعمد بدوره إلى استغلال القضية إلى أقصى حد، في إطار سياسته المعروفة التي تقوم على ابتزاز الكل لتحقيق مكاسب سياسية. ومن هنا، يمكن فهم التأخير في الكشف الكامل عن ملابسات الجريمة، وحركة الاتصالات التي باتت تجري على خط أنقرة–واشنطن من جهة، وأنقرة–الرياض من جهة أخرى.
فرصة أردوغان
بالنسبة إلى أردوغان، فإنّ قضية خاشقجي يمكن قطف الكثير من ثمارها، فعلى الخط مع الرياض، يمكن أن تقود التطورات إلى تسوية بأثمان سياسية باهظة يدفعها محمد بن سلمان في الاقتصاد والسياسة، وهي قد تصل إلى إمكانية حل المشكلة مع قطر وبالتالي الدفع مجدداً بهذه الإمارة الحليفة للأتراك إلى الواجهة مجدداً، في مقابل تحجيم الاندفاعة السعودية، أو ضبطها.
أما على الخط مع واشنطن، فإنّ مكاسب أردوغان قد تكون أقل من الناحية السياسية، ولكنها محورية بالنسبة إلى الأتراك، خصوصاً إذا ما تعلق الأمر بإنهاء التوتر الأخير في العلاقات الثنائية، وصولاً إلى إمكانية الحصول على رأس فتح الله غولين، بما ينطوي ذلك من مكاسب داخلية لأردوغان.
لا شك في أن كل ذلك يضع السعودية في مأزق داخل القصر الملكي في الرياض، من المرجح أن يكون محمد بن سلمان متناوباً بين حالات القلق من الآتي والغضب من مساعديه.
ابن سلمان محاصر
لا خيارات كثيرة أمام ولي العهد–الملك. ثمة حلول ممكنة لكسب الوقت من قبيل البحث عن «كبش فداء» على غرار نائب رئيس الاستخبارات اللواء أحمد العسيري الذي تقول الحكومة الأميركية إنها كانت على علم بتخطيطه لتشكيل فريق خاص للقيام بعمليات سرية، من دون أن تكون قادرة على تحديد الأهداف… أو حتى التملّص من المسؤولية المباشرة عبر إشاعة روايات من قبيل أن ولي العهد سمح بإلقاء القبض على خاشقجي واستجوابه ولكنه لم يأمر بقتله.
لكنّ كل ما سبق لن يكون كافياً لاقفال القضية بشكل نهائي، طالما أن ثمة رغبة واضحة باستغلالها إلى أقصى حدّ ممكن.
مع ذلك، فإنّ ثمة هامش مناورة يمكن لمحمد بن سلمان أن يستخدمه عبر الانحناء أمام العاصفة، وتقديم تنازلات، ولو مؤلمة. الهدف الأساسي بطبيعة الحال، هو حماية العرش، خصوصاً في ظل ما يتردّد من حراك داخلي في السعودي لعزل الأمير الشاب، وهو ما يشير إليه سيل من التسريبات غير الرسمية التي تشير إلى تحرّكات من قبل تحالف الخصوم المتضررين من طموحات ولي العهد–الملك، أو حتى مناقشات داخل هيئة البيعة لعزله.
من المؤكد أن كل ما يتردد من احتمالات عزل لمحمد بن سلمان تتأرجح حتى الآن بين التكهّنات والآمال، فالأمير الشاب نجح إلى حد كبير خلال السنتين الماضيتين من تحجيم كل خصومه الواقعيين والمحتملين في الداخل بعدما أقصى الكثير من الأمراء، بأوامر الفجر الملكية، وهو بات المسيطر الأحادي على الجهازين العسكري والأمني (وزارة الدفاع ووزارة الداخلية)، ناهيك عن مفاصل الحركة الاقتصادية للمملكة النفطية.
وما لم يصدر أمر العمليات من واشنطن بشكل مباشر بإقصائه، وهو أمر يبقى رهناً بالكثير من الحسابات الداخلية والخارجية، فإنّ المرجح أن يستمر بن سلمان في إدارة الأزمة إلى أن يضمحل الخطر، ولكنّ أمراً كهذا سيتطلب منه تقديم تنازل تلو الآخر للأميركيين، بما يعنيه ذلك من تحجيم للسياسة الخارجية السعودية
ولكن ثمة فرصة يمكن أن تكون متاحة لولي العهد السعودي، وهو الاستدارة بشكل كامل نحو روسيا التي ما زالت حتى اليوم تنأى بنفسها عن قضية خاشقجي، والتي خطت خلال الفترة الماضية خطوات حثيثة لتمهيد تربة تعزيز العلاقات على نحو استراتيجي مع السعوديين، وهو ما تبدّى على سبيل المثال خلال زيارة الملك سلمان إلى موسكو الصيف الماضي.
ومع ذلك، فإنّ محمد بن سلمان والمنظومة السعودية المحافظة بشكل عام، ليست من شاكلة تلك المنظومات الحاكمة القادرة على اتخاذ قرارات على هذا القدر من الخطورة الاستراتيجية، وإن كان البعض في الغرب يضع سيناريو كهذا في الحسبان، ولو باحتمالات ضئيلة.
Leave a Reply