عندما تسمعه يتنهّد ويقول وهو جالس فوق ملايينه “السعادة ليست في المال”. وإذا كنت مثلي، يا قارئي العزيز، بينك وبين المال عداء مستعص وتحتار في دفع فواتيرك الشهرية من غاز وكهرباء وانترنت والدش العربي، وفواتير “السيلفون” ومصاريف الأولاد، إذا كنت في مثل هذه الحالة ماذا تفعل؟
قد تسكت، طبعا وتبلع غيظك وغضبك، وقد تهز رأسك لامباليا، أو قد تضرب أخماسك بأسدادك علّك تجد مخرجاً مستحيلاً مما أنت فيه، فلا تجًد. عندها حتماً ولا أحد يلومك، ستشعر برغبة عارمة لتوجيه لكمة على صدغ محدثك النفروش، فيلسوف آخر زمانه الذي يريدك أن تكون سعيداً رافلاً في الفقر والديون والبهدلة.
شخصياً، تراودني هذه الرغبة دائماً عندما أسمع دائما السيدات النقّاقات اللواتي أُنعم عليهن بأزواج من الماس تتكلم دفاتر شيكاتهم بكل لغات العالم، لكنني أتراجع، خاصة إذا أردفت محدثتي قائلة: شو نفع المصاري إذا كانت الصحة تعبانة؟ فأقول لنفسي عندها: يا بنت هلق إذا ضربتيها يمكن تكون القاضية وتروح فيها، فدعي الخلق للخالق.
في الفترة الأخيرة بدأت أرى شيئا من هذا القبيل، إذ يبدو فعلا أن الفلوس هي ليست كل شيء، كما أن الجاه ليس كل شيء ولا المناصب العالية. أعتقد أن تقدمي في السن هو السبب في هذه الرؤية، بحيث لم يبق في العمر الكثير، ولم تبق هناك لذة كبيرة في الملذات، وحين تمر بي السنين أجد نفسي تردد وتقول مع القائلين: يا رب حسن الختام!
لا أكذبكم القول بأنه لا التقدم في السن أو العزوف عن الملذات هو الذي آثار هذا الحديث عندي، إنما زيادة نسبة التوتر والاكتئاب والتكبر على نعم الله، والقصص التي تطالعنا صباح مساء عن عذابات المترفين واكتئابات المدللين الذين لديهم صحة وجمال وتلّ مال، ومع ذلك هم تعساء ودوما يزعجون من حولهم بقصصهم البلهاء التافهة ليتعاطفوا معهم.
كنت أظن أن الشقاء في الطفولة حكر علينا ومكتوب علينا ولا يشاركنا فيه أحد حتى سمعت الأمير تشارلز، ولي عهد بريطانيا، بعظمة لسانه يحكي بألم عن طفولته المعذبة وحرمانه من الحنان والعطف وتعرضه للضرب والسخرية من رفاق المدرسة. يا ساتر استر.. وينك يا معتصم بن القذافي؟
حكى الأمير تشارلز، في أحد البرامج التلفزيونية، عن المدرسة الداخلية التي وضعوه فيها، حيث الشتاء القارس والقوانين المدرسية الصعبة. وهذه المدرسة الخاصة التي لا يقدر عليها إلا أبناء العائلات الثرية لا تترك وسيلة للتوفير إلا وتسلكها، حتى التدفئة كانت بمقدار قليل على طريقة البخل الإسكتلندي.
أما الطلاب العفاريت فكانوا يضربون تشارلز ويسخرون من أذنيه الطويلتين وهو مسكين لا يحق له الشكوى. وفي الجامعة ظل محروما من حنان الأم واهتمام الأب. ووجد السعادة في الحب، لكن الحب لا يجوز أن يشغل شابا مستقبله أن يكون ملكاً. من بين كل الفتيات خفق قلبه بالحب لواحدة اسمها كاميلا شاند. بنت بسيطة لا تهمها الموضة وتضحك لأتفه الأسباب وأسخف النكات وتحب حياة الريف والخيول والسباقات. أحبها وأحبته منذ اللحظة الأولى ووجد فيها الحنان الذي افتقده عند أبويه.
في ختام حديثه تمنى الأمير تشارلز، بعد هذه السنوات وما ناله من متع الحياة ووجاهتها لو كان طفلا عاديا لعائلة عادية، ربما عندها كان شعر بالسعادة المفقودة. أمنية الأمير تشارلز تشبه الراقصة المصرية التي شبعت هزا ومالا فارتدت الحجاب وصارت تدعو للتقشف والزهد. يا عم بعد إيه.. تبكي عليه؟
Leave a Reply