في سابقة لا يمكن التقليل من معناها (وخطورتها) أعلن الشاعر الأشهر أدونيس أنه سيتوقف عن كتابة الشعر، تاركاً الوسطين الثقافي والأدبي في العالم العربي في بلبلة كبيرة، بين مصدق ومكذب، ومؤكد ومشكك.
والحال، أن موقفاً من هكذا عيار يُسجّل لصالح أدونيس، بغض النظر عن أسبابه ودوفعه. خاصة وأن “ثقافتنا” و”منصاتنا” و”أبواقنا” مزدحمة بالعجزة وبالذين صاروا في “أرذل العمر” دون أن يتزحزحوا عن أماكنهم بوصة واحدة، أو قيد أنملة كما يفضل البعض، في الثقافة والأدب والسياسة والدين وتجارة البيض وصناعة الكونسرة، ألخ.
توقف أدونيس عن كتابة الشعر، وانبرى الكثيرون لتكذيب الخبر، أو إعادة تفسيره، أو تأويله حسب متطلبات السوق الثقافية. (والسوق الثقافية محكومة بالكثير من العلاقات الشخصية، على عكس الأسواق الأخرى التي تحكمها قوانين العرض والطلب )، وكأنه من المعيب، أو الصادم، أن يعلن الشاعر أو السياسي أو رجل الدين أو الممثل اعتزاله. (بالمناسبة لماذا يحتفل الرياضيون في حال اعتزالهم، بينما يواصل جميع “اللاعبين” الآخرين..ألعابهم بدون أن يتمتعوا بالموهبة اللازمة، أو حتى اللياقة البدنية أو العقلية أو الوجدانية).
وكان شعراء كثيرون قد قاموا بنقد تجاربهم الشعرية، وأعلنوا على الملأ.. أنه لو قدر لهم إعادة تقييم تلك التجارب فسوف يحذفون الكثير من قصائدهم. ودرويش وأدونيس، على وجه الخصوص، أعلنا في هكذا سياق.. أنهما قد يقومان بحذف أكثر من نصف أشعارهم. فماذا كنا لنفعل لو قدّر لهما ذلك حقيقة؟ ماذا.. لو قاما بحذف تلك القصائد ذاتها التي أعجبتنا، والتي قمنا بنسخها وحفظها لأننا لم نكن نملك ثمن الكتاب الذي يحتويها؟
تذكرون بالطبع قصيدة الدرويش “سجّل أنا عربي” التي أثارت كل ذلك اللغط والشك حول كاتبها الذي فضّل “تركها على الرف” وعدم نشرها ضمن دواوينه الشعرية بسبب رداءتها الفنية. فماذا سنفعل لو حذف أدونيس “أغاني مهيار الدمشقي”، أو حذف كل قصائد “الكتاب” التي تشير وتومئ.. إلى أن تاريخنا ليس أكثر من حفلات قتل متتالية!!.
بالطبع لن يفعل أدونيس ذلك، لن يحذف قصائد كتابه الشعري “الكتاب”، لأنه ببساطة يعتبر أهم كتاب شعري في تاريخ العرب خلال الـ500 عام الأخيرة، ولكن ماذا لو أن صاحبه قام بإحراقه من باب العتب أو الألم، كما فعل أبو حيان التوحيدي ذات مرة، حين قام بإحراق جميع كتبه احتجاجا وغضباً.
أصلاً.. كم عدد الذين يعرفون كتاب “الكتاب”، وكم عدد الذين قرأوه؟
قرار أدونيس بالتوقف عن الكتابة يفيد ببساطة أن.. ليس كل منتج كتابي قادر على العيش والاستمرار. الكتابة مقترح. ولكن ليس كل مقترح ضروري وليس كل مقترح يملك مبررات وجوده. يجب أن يكون المقترح الأدبي أو الفني مغايراً و”رائعاً” حتى يعيش. وهذه عبرة بسيطة للمصابين بـ”الإسهال” الشعري والروائي والثقافي. فالحكمة البسيطة الأخرى تقول: ليس كل مكتوب صالح للنشر أو للقراءة.
وأيضا.. فالأمر ليس بالكثرة ولا بالوفرة. لذلك نتمنى على الشعراء والأدباء أن يستريحوا قليلا.. وأن يرحمونا من فائض إقياءاتهم، وأن يتذكروا أن هناك شعراء دخلوا التاريخ بكتاب واحد أو باثنين، لا أكثر.
لقد توقف الشاعر الفرنسي الأسطورة رامبو عن كتابة الشعر في العشرين في عمره، ولكنه مايزال رغم مرور السنوات في عداد العمالقة. تنحى الشاب المبدع جانباً.. واختار أن يكون نخاساً، وأن يتاجر بالرقيق، بدل كتابة الشعر. والنخاسة.. تجارة أشرف من الكتابة المزيفة والسياسة المزيفة والتدين المزيف، فهل من متعظ؟ وهل من يخجل على حاله؟
Leave a Reply