نظّمتْ مجلة «لاكروا» مناظرةً فكرية حول مستقبل الأدب إستضافتْ لها كلّاً من المفكرَيْن تزتفان تودوروف وفرانسوا بيغودو كانت الغاية المحورية منها الكشف عما يمر به الواقع الأدبي من تحولات فكرية ومعوقات بيداغوجية جعلت نسبة مخيفة من التلاميذ والطلبة يعزفون عن الإنخراط في مسالك الأدب درساً ًوإبداعاً ومواكبة ًباعتباره نشاطاً فكرياً بات يتجاوزه عصر الرقميّات بما أفرزه هذا العصر من إمكانيات هائلة للإبداع على مختلف مستوياته السمعية-البصرية على الخصوص ونعتقد أنّ الصورة في الوطن العربي هي أيضا بدأتْ تتشكل من نفس هكذا ألوان قاتمة حول مصير المنتوج الأدبي وبالتالي الإرث الأدبي، فهل بات الخوف على ذاكرتنا الأدبية العربية خوفاً مشروعاً مثلما هو الواقع اليوم في فرنسا قلعة الفكر التنويري والثقافة والأدب والفنون؟ ثم ما هي الإجراءات الفكرية والبيداغوجية الكفيلة والناجعة من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه في الجسم الثقافي المغربي والعربي عموماً من داء فقر الأدب القادم في المستقبل القريب لامحالة.
أمّا في فرنسا ومع الدخول الثقافي لشهر يناير 2007 فقد ظهرت 313 رواية فرنسية فقط (ملاحظة المحرر: خلال عام كامل)، مادفع تزتفان تودورف وفرانسوا بيغودو إلى التساؤل حول دور الأدب وحول دور التعليم في الإسهام بتشكيل الواقع الأدبي الراهن بفرنسا. إن عدم توفقهما -التعليم والأدب- يعلن بشكل واضح عن تحول ما في التعاطي مع حقل الرواية الراهنة على الخصوص كأسمى جنس سردي قادر بوعائه على استيعاب ما لا تستطيعه الأجناس السردية الأخرى من تحولات إجتماعية وسياسية وثقافية. ولمناقشة هذه الإشكالية استدعت كما سبقت الإشارة إلى ذلك مجلة «لاكروا» المفكرَيْن تودوروف، المؤرخ والباحث الأدبي، وبيغودو، الروائي وأستاذ اللغة الفرنسية وهذه ترجمة لهذا الحوار-المناظرة.
– «لاكروا»: ماهي في نظركما الأخطار التي تحدّق بإبداع الخيال الأدبي في الوقت الراهن؟
– تودوروف: إنه الخطر الذي يأتي من مجموعة من المصادر التي لها علاقة بتصورنا للأدب، وأول هذه الأخطار يوجد في مجال التعليم الذي طرأت عليه عدة تحولات غداة انتفاضة 1968 والتي ساهمت فيها كثيرا. لقد حاولْنا فرضَ توازنٍ بين المقاربات الخارجية، البيوغرافية الإضافية مع تحليل عميق للأعمال نفسها، لكننا ذهبنا بعيدا، والنتيجة هي أننا ندرس اليوم أوليات وأدوات التحليل الأدبي بدل الأعمال الأدبية. وقد نجد هذا التصور المتعالي في الكثير من الكتابات النقدية الصحفية وأيضا لدى العديد من الكُتّاب الذين يبدون كالمشلولين أو المكبّلين بسبب رغبتهم في البحث عن التوافق والإنسجام مع النظريات التي يظنونها معاصرة.
ــ بيغودو: إن وضعيتي كأستاذ للغة الفرنسية تبين بالملموس الحالة التي تتصورونها عن التعليم. نحن مشغولون أكثربالبراغماتية خصوصا في الثانويات الصعبة… ولنأخذ مثلا بعضاً من حرية اختيارنا بعلاقته مع التعليمات الرسمية التي تفرض علينا حسب رأيهم أن نرتبط بما هو شكلي، وهذا ما أرفضه.. أن نتساءل ما إذا كان كافكا كوميدياً أم تراجيدياً هو سؤال سيأخذنا بعيداً حول المعنى والشكل، وفي جانب آخر علينا أن ننصف الفكرَ الذي جاء بإصلاحات وبمنعطف 68 إذ من المفروض أن يساير التعليم دمقرطة المجتمع.
إنّ المرور عبر طرُق تحليل شكلية يمكِّن من خلق تواصل حتى مع أولئك الذين لايعني لهم النصُّ شيئاً قبل كل شئ. ولنأخذ الخطوات التي تمكننا كأداة إجرائية من تحليل النصوص المسرحية: باستخراج الموضوع، الأهداف، العنصر المعاكس، العنصر المساعد، يسمح لأي واحد أن يلج النص المسرحي حيث أن اللغة لا تعني شيئاً وأن القصة لا توحي بشيء.
– تودوروف: أن يدافع الأساتذة عن التدريس هذا شيء عادي، إنني أضع من جهة أخرى نفسي في موقف الطلبة والتلاميذ إذ يبدو أن مسلك الأدب لم يعد يجتذب أي طالب في المستوى الثانوي، وبهذا التصور الذي نكرّسه عن الأدب بات الطلبة لا يفهمون ما الجدوى من دراسة الأدب، وأجد أن من بين الأسباب المنفرة في ذلك أن نفكر في إستمالتهم بالتحدث لهم كل يوم عن «العنصر المساعد» و«العنصر المعاكس»، بل علينا أن نوضح لهم أن النصوص العظيمة السابقة تتحدث عنهم أي أنها بشكل أو بآخر تعطيهم معنى لحياتهم وأكثر من هذا، أنها ستساعدهم على الحياة.
– «لاكروا»: إن سؤال المعنى متعلق بسؤال الإلتزام في الأدب الذي تعرضتم له سابقاًً والذي تدافعون عنه، السيد فرانسوا بيغودو، في كتابكم «تحولات الرواية».
– بيغودو: أجل إن هذا الإصدار الجماعي يضم العديد من الفرضياّت وما كنّا نودّ أن نظهره من خلال هذا الكتاب الجماعي هو هذا التنوع. إنه لمن الصعب أن نقارب التطبيق النقدي الروائي المعاصر تحت عنوانين أو ثلاثة، ولا أظنّ أنّ الأدبَ الفرنسيَّ الراهن يعاني من عجز في واقعيته وما وددتُ بسطَه في كتابي هو هشاشة الأدب أمام مفهوم «الإلتزام» إن الروائيين الفرنسيين أخشى ما يخشونه هو أن يصبحوا منضوين تحت راية تيار نضالي كيف ما كانت مبادؤه وأهدافه لكن يجب التذكير أن سارتر قال من قبل «أن ألتزم هذا شيء طبيعي»، وهنا أختلف مع تودوروف، وأعتقد أن كل الروايات الراهنة تتحدث لنا عن العالم الواقعي كل منها بأسلوبها وطريقتها الخاصة.
– «لاكروا»: هل هذا الطموح قد اختفى من الرواية الحالية كما أشار إلى ذلك تودوروف؟
– بيغودو: أعتقد أن الرواية الحالية لا تؤمن بعالم واحد، وهي تلامس الثيمات من زوايا ضيقة وصغيرة وما قمتُ به في كتاب «بين الأسوار»، هو أنني بدل أن أطرح نظريات كبيرة عن المدرسة، فقد إخترت أن أدخلَ إلى الفصل وأتابع عن كثب هناك ما يجري، وطبعاً لكل واحد أن يستنتج ما يراه في المجتمع ككل، لكنْ من غير أن أتجرّأ على الإدِّعاء بقدرتي على تفسير العالم.
– تودوروف: الإلتزام بالمعنى السارتري حاضر دائماً ولا يمكننا أن نضعه كهدف.. إن الإلتزام بمعنى الإنخراط في قضية ما هو مناقض للفكر الروائي الذي ليس جنساً ديداكتيكياً.. ويمكننا أن نحلم يوماً ما بأنْ يصير الكتّاب مسؤولين، بمعنى أن يتحمّلوا إستمرار العلاقة بين العالم الذي يعيشون فيه والعالم الذي يخلقون. أنا والآخر، بمعنى الآخر الواقعي والمتخيل، نشكل عالماً واحداً، مشتركاً وهذا لا يعني عالماً أحادياً وألاحظ أن هذه الدعوة هي ذاتُ تمثُّلٍ هزيلٍ على مستوى الرواية المعاصرة.
– بيغودو : هذا هو ما يشكل جوهر إختلافنا الأساسي إنه هذا التسلسل المتبدي في كتابك بين العدمية: «العالم مرعب»، والفردانية، حيث الأنا هي كل شيء، والشكلانية «الشكل قبل العمق»، الذي تعلقون عليه هزال الأدب وفقره.. لكن أظن أن هذه الأبعاد الثلاثة جد متنافرة.
ـــ تودوروف: لست أنا من طرح هذا التسلسل، بل إنها المرحلة، فالأبعاد الثلاثة أو التيارات الثلاثة التي أشرت إليها لا تلتقي فيما بينها لكنها تتكامل، ولكي نخرج من الشكلانية ليس لدينا خيار آخر بين العدمية والفردانية وعلى ما يبدو فهذان الخياران يتعارضان، إنهما في الواقع ينطلقان من نفس العمق.
الكاتب العدمي لا ينخرط في العالم الذي يكتبه بما أنه قادر على رؤيته من الخارج، أمّا الكاتب الفرداني فإنه يقتصر على تجربته الشخصية، بينما الأدب يستطيع فعل أشياء أكثر من ذلك وليس من المعقول إختزاله في هذه التيارات السابقة، إن كتابي هو مرافعة من أجل قضية الأدب وهو تذكير بهذا الشيء الرائع -الأدب- الذي يساعدنا على الحياة.
– بيغودو: أعتقد أنه من السابق لأوانه النظر إلى هذا الواقع كناقوس خطر بينما أن استراتيجيتنا تتجلى في مواكبة الدينامية والجهد الأدبي، وإذا قلنا أن الأدب في صحة جيدة علينا أن نثبت ذلك ونثبت أيضاً أنه مستمر في عافيته وإنتاجيته.
– تودوروف: لا أدعي أنني أعطي نصائح للأدباء، فأنا أعلم أنهم يكتبون على قدر إستطاعتهم غير أنني ألاحظ في بعض الأحيان أن عالمهم الخيالي يبدو رتيباً وهزيلاً بله مختصراً في تجربة واحدة ومتكررة، بينما كان من الممكن أن تكون أكثر غنى وتعدداً وتعقيداً.
ويبدو أن الأدب الفرنسي اليوم يعاني من هذا الجانب مثلما هو الأمر بخصوص اهتمامه بالآخر إلاّ فيما ندر. وأرى من جهة أخرى أنه من بين أكثر الأسباب لهذا العوز والضحالة في الخيال الأدبي يتجلى في القصور المحيط بتصورنا للأدب، فالتدريس والصحافة الأدبية تهيمن عليهما غالباً النزعات التي تحدثت عنها سابقاً.
– بيغودو: أعتقد أنك قد قمت بتقييم العرض التوضيحي الذي قدمت قبل قليل، وأقول لقد قمت ببسط لكرونولوجيا التطور الذي قاد الفن بصفة عامة إلى الإنطواء على نفسه. وهذا طبعاً لا أود أن أسمعه، ولأعطي مثالا على ذلك:
«أوليبيك» هذا الكاتب الذي يتموقع إلى جانب تيار العدميين فقد كان يتباهى دائماً بقطيعته التامة مع التقاليد الشكلانية ويصرح دائماً أنه غير معني بأهمية الأسلوب. وهذا طبعاً ما نلاحظه في مؤلفاته، ومهما يكن فلا يمكننا أن نزج بالمدرسة العدمية في هذا المسلك.
– تودوروف: لابأس أن أعيد ما قلته سابقاً، فالمدرسة العدمية ليست وليدة تيار «الفن من أجل الفن» إنها وليدة انكفائها على نفسها.
– بيغودو: أجل لكنك تضع هذه النزعات في نفس المستوى وتساوي بين الرفض والواقع أو تقوم بإسقاط حق الفن على الفن.
– تودوروف: على كل حال إنه يساهم في رفض العالم المشترك.
– بيغودو: إذا كان العالم المشترك غير موجود فهذا يعني أنه غير موجود، وعلينا إذن ألا نفرض على الكاتب أن يسيطر على عالمٍ يعلم مسبقاً أنه غير موجود. لقد أثبتَ «بيكيت» أن العالم المشترك غير موجود وقد أنجز ما استطاع إنجازه في الرواية والمسرح. و«كافكا» أيضاً لم يكن موافقاً على وجود عالم مشترك؛ وعندما حكت كريستين أنفو قصة حبها لم تتردد في القول بأن المسألة تتعلق بعالم مشترك، غيرأنه فقط عالمها الذي بنته في القصة. وقد لا نحب هذا الصنف من الروايات لكننا في المقابل لايمكن أن نجردها من واقعيتها.
– تودوروف: لكن هل هذا هو الشيء الوحيد الذي علينا أن نطالب به تجربة إبداعية ما، أن تكون واقعية؟ أما بالنسبة لرفض مقولة العالم المشترك فإنني لن أؤيدك على كل حال: وإذا كان الأمر كذلك فلن ننشر مؤلفاتنا في المستقبل وسوف نلوذ بالصمت.
– بيغودو: لا يمكننا من دون شك أن نقدم للمتلقين ثيمات عالمية نطمح عبرها إلى خلق ردود فعل وانعكاسات لديهم؛ لكنني لستُ متأكداً أن هذا المطمح سوف يخلق بالضرورة كتباً قد تتجاوزنا أو تسهم في تغييرنا، بل يمكن أن أقول أنها سوف تدعم وتثبت ما نحن عليه. ربما سأكون هنا مهوساً بالشكل ومتشبعاً بقناعة أنه في أي عمل أدبي فإن الشكل واللغة والموسيقى هي المؤشرات الحقيقية الموجهة للتحول والتغيير عند المتلقّي وبقدر كبير أكثر من الثيمة أو المعنى اللذيْن لا ينتجان في النهاية غير وضع قارٍ وثابت.
– «لاكروا»: إن تودوروف قد أشار في كتابه إلى الدور الهام للأدب ويلح أيضاً على مفهوم اللذة، الذي يبدو أنه لا يشكل الإنشغالات الأساسية للكتاب الجماعي السالف الذكر.
– تودوروف: على فعل القراءة أن ينصهر أساسا باللذة ونحن ككتّاب لن نوصل أيَّ متلقٍ لهذا الهدف بالإرغام، قد يحقق القارىء هذه اللذة إذا ما عثر على نشوة ورغبة ما في متابعة الرواية؛ أن يتخيل كائنات وشخوصا غير الكائنات والشخوص التي يعرف وأن يقتنص المعنى ويكتشف الجمال أيضاً.
– بيغودو: إننا لم نلامسْ هذا المفهوم -اللذة- في الكتاب الجماعي إلاّ نادرا لأنه وبكل بساطة قد عرفنا السبب، فأستاذ اللغة الفرنسية، أيّ أستاذ، لايحلم إلاّ بشيء واحد: أن يعثر التلاميذ على اللذة والمتعة في الكتب التي يقترحها عليهم للقراءة، وعلى عكس هذا التصور فإن ثمانين في المئة منهم غير معنيين بهذه اللذة المفقودة. وقد يكون قرار فرض هذا الهدف البيداغوجي عليهم حاملا لشيء من العنف؛ عنف الإكراه وسيخلق بالتالي تمييزا وتفرقة لكوننا أرغمنا التلاميذ على الإنتماء إلى هذا المجتمع الأدبي الذي سوف يشعرون فيه بالغربة. من هذا المنطلق علينا أن نخلق مقاربات موضوعية وواقعية من أجل الذهاب جميعاً، أساتذة وتلاميذ، إلى هذه اللذة والدرس الشكلاني واحد من بين آلاف الطرق المؤدية إلى ذلك.
Leave a Reply