مريم شهاب
لو أنها لم تتصل بي، بعد فراقٍ طويل، التي كنت أعتبرها صديقة حتى البارحة، ورحت أرحب بها وأعبر لها عن شوقي وأشكرها على سؤالها عني في هذا الوقت، زمن الهلع من فيروس الكورونا، إذ أنها فجأة أخرجت تلك اللسعة السامّة الساخرة، حين قالت: علمتُ أنّكِ لا زلت تكتبين رغم يدكِ المكسورة؟ أجبتها: نعم للأسف، لأن الألم في يدي اليسرى، على وزن ما غنّى المرحوم فهد بلّان، وأنا أكتب بيدي اليمنى. ولا أدري لماذا شعرت أن الصديقة تحوّلت إلى عقرب حين نفذت إبرتها السامّة إلى أعماقي، أنا التي كنت أعتبر نفسي محصّنة ضد الصراعات و«الزكزكات» من الناس والحياة، وقلما أتأثر بالكلمات إلى هذه الدرجة. ربما فوجئت بسؤالها، أو ربما أصبحت أكثر حساسية في زمن كورونا.
ولولا اتصالها ذاك، لم تكن لدي رغبة في الكتابة عن حادثة كسر يدي، وأنا أمشي على الرصيف قبل شهر، حين تعثرت فسقطت، وانكسرت يدي اليسرى.. التي ماتزال تقضي عقوبة السجن في الجبس الأبيض حتى يشفى عظمها المكسور.
حين سلط الطبيب الأشعة السينيّة لرصد الكسر، ضحكت وقلت في نفسي أنا التي نشأت في القرية، وتسلقت الجبال والأشجار والحيطان وركضت وراء الفراشات والعصافير، وتعثرت كثيراً وسقطت كثيراً. أنا التي عشت الحروب وهربت من القصف الإسرائيلي وركضت إلى المخابىء منكسرة القلب والروح، نجوت من كل ذلك، وهنا بسبب خلل بسيط في باطون الرصيف سقطتُ، وكأن ريحاً عاتية دفشتني. يا عيب الشوم عليكِ يا مريم!
بعد قليل عاد الطبيب ليقول لي بلهجة مهنئة: كسر في الإصبع الصغير وإصبع الخاتم بحاجة لجراحة لترميمه وإرجاع عظامه إلى مكانها. طبعاً قبل الجراحة كان لا بد من صور أشعة وفحص دم ومئة سؤال عن تاريخي الصحي وتاريخ عائلتي، ومقابلات مع مستشار طبي ونفسي لفحص قدراتي العقلية والنفسية وتوقيع على أوراق تحسّباً للأسوأ. روحي المتمردة تضايقت من كل ذلك، قلت للدكتور قبل دخولي غرفة العمليات: وهل هناك داعٍ لكل هذه الإجراءات الطبيّة والنفسيّة؟
زمان، في القرية، حيث نشأت، كان التجبير العربي يتم بكل بساطة، وبدون أشعة ولا فحص دم… فحكيت للطبيب عن المرحوم «أبو علي»، الرجل البسيط الذي كان مشهوراً في تجبير الكسور في جميع القرى المجاورة. كان أبو علي يقوم بالعمل والطبابة ولكن الشكر كان لأخيه، أبو إبراهيم، لأنه كان زعيم القرية ورئيس بلديتها. ضحك الطبيب، وأجاب: «أنتِ الآن لستِ في القرية، على الأقل، الكسر في يدك اليسرى، ويدك اليمنى حرّة طليقة. لو حدث ذلك لي ستكون كارثة. فأنا أعسر، أعمل وأكتب بيدي اليسرى».
حين تقرأون هذه السطور، لا أدري كم سيكون قد بقي من الزمن لكي تظل يدي في سجنها الأبيض الجبسي، لكنني خلال الأسابيع الماضية وعيت تجربة عميقة حول هشاشة الجسد البشري، وكم أن وجود الإنسان واهٍ أمام تعثرٍ بسيط، وأمام فيروس ضئيل شغل الكون وأدخله في خوفٍ فظيع وعزلة شديدة.
إن كسر يدي تجربة أخرى أليمة، تعلمت منها الكثير عن وحشة المتألم ومعنى التعاطف مع الآخرين، وجرّبت فيها معنى أن يكون الإنسان مريضاً أو معاقاً يصعب عليه ارتداء ثيابه وحذائه وقص أظافره، واضطراره إلى الاتكال على الآخرين في تنقله.
الأهم من ذلك، من كسر يدي والهلع من فيروس كورونا، أنني تمكنت من انتزاع الإبرة السامّة التي غرستها تلك الصديقة في روحي، وتجاوزت ما حدث وعدت للنظر إلى الوجه الإيجابي المشرق من هذا العالم.
Leave a Reply