مع اقتراب الإستحقاقات التشريعية والتنفيذية والتمويلية، وفي ظل التوجهات التقشفية للإدارة الأميركية الجديدة، بدأت الأصوات الحريصة ترتفع تدريجاً في مسعى لتوفير موازنة كافية وظروف مناسبة لإتمام الإحصاء الوطني العام الذي سيبدأ ربيع العام 2020، لتعداد سكان الولايات المتحدة، بموجب الدستور الذي ينص على وجوب اجرائه مرة كل عشر سنوات، والذي تتوقف عليه مسائل حيوية أهمها التمثيل السياسي من خلال تعديل الدوائر الانتخابية، ومشاريع التنمية الاقتصادية والإجتماعية والبنى التحتية تبعاً لتطور الكثافة السكانية.
في هذا الإطار نظمت مؤسسة «نيو أميركا ميديا» (NAM) التي تعني بشؤون وسائل الإعلام الإثنية وثنائية اللغة مؤتمراً صحافياً شارك فيه رئيس مؤتمر القيادة للحقوق المدنية والإنسانية (LCCHR) وايد هندرسون، المدير التنفيذي للجمعية الوطنية للمسؤولين المنتخبين والمعينيين من أصول لاتينية (NALEO) ارتورو فارغاس، رئيس المؤسسة الآسيوية الأميركية لتشجيع العدالة (AAJC) جون. سي. يانغ، والمستشارة في مؤسسة صندوق التعليم (Education Fund)، المديرة السابقة للجنة الفرعية للإحصاء والسكان في مجلس النواب تيري آن لونثال، وعشرات الصحفيين والمراسلين الذين شاركوا من مختلف الأقاليم الأميركية عبر الإنترنت.
كانت الأزمة المزدوجة التي تواجه الإحصاء المقبل، الحاضر الأكبر في مداولات المؤتمر. يتجلى الوجه الأول من الأزمة الداهمة في حقيقة أن إدارة الرئيس ترامب المعروفة بعدائها لأكثر الشرائح الاجتماعية حاجة إلى الإحصاء، من مهاجرين وملونين وفقراء وأقليات، وبالتالي لا حوافز لديها لإجراء إحصاء شامل وكامل، فيما يلاقيه الوجه الثاني من خلال حالة الخوف والريبة التي اثارها وصول ترامب إلى البيت الأبيض والتي تجعل هؤلاء متوجسين، بل خائفين من المشاركة في الإجابة على إستمارات الإحصاء، وتالياً سيساعدون الإدارة في مسعاها إلى تهميشهم وإنكار وجودهم. أضف إلى ذلك حقيقة ان الإحصاء لا يقتصر على التعداد الدوري كل عشر سنوات بل يستمد الكثير من معطياته من الإستطلاعات الدورية التي تجري سنوياً وتتناول مناحي الحياة والمعيشة والتعليم والتوظيف والخصوبة وغيرها من الأرقام المهمة.
قلق وتوجس
تجسد حضور هذه الأزمة في مداخلات وأجوبة المشاركين في المؤتمر، وهم من أكثر المهتمين بالإحصاء خبرة وتمرساً. تناول المشاركون الإشارات الأولية المقلقة المتمثلة في عدم طلب إدارة ترامب التمويل اللازم للإحصاء المقبل، وعدم مبادرة الكونغرس ذي الغالبية الجمهورية إلى تقديم مشاريع قوانين من اجل ذلك، أو البدء في إقرار تشريعات تكفل أمن المعلومات الإحصائية عبر وسائل التواصل الحديثة وخصوصاً الإنترنت، والدور الشخصي للرئيس دونالد ترامب في التشكيك في الوكالات الفدرالية ومعلوماتها، وإغفال إدارته لطلب أية ميزانية للإحصاء في موازنة العام 2018.
وعلى المستوى الإداري لاحظ المشاركون أن وزارة التجارة التي تشرف على مكتب الإحصاء تلكأت حتى الآن في تخطيط وتمويل الحملة الإعلانية للإحصاء المقبل وفي افتتاح مكاتب إقليمية لمكتب الإحصاء، وفي المبادرة إلى التواصل مع المؤسسات الأهلية والمحلية للبدء في مشاريع الشراكة التقليدية التي تسعى إلى توفير اكبر تجاوب ممكن مع مشروع التعداد السكاني. وحذر المشاركون من توجه جديد بدأ في الكونغرس لجعل الإستطلاعات الميدانية التي تجري سنوياً تطوعية، ما يعني حجب التمويل عن تحصيل المعلومات الحيوية لسكان المدن الكبيرة والأقليات الإثنية والمجتمعات المكونة من مهاجرين باعتبارها الأكثر عرضة للتغيير. ولم يخف المشاركون خوفهم الصريح من أن لا يكون الإحصاء وافياً، ليس لأسباب تقنية، وإنما تلبية لأهداف سياسية غير مستبعدة عن توجهات الإدارة الحالية.
ويرى المشاركون أن على المؤسسات الأهلية والخيرية أن تضاعف جهودها وتركيزها في أمرين مهمين؛ الأول هو تشجيع الناس وخصوصاً المهاجرين والملونين وذوي الأصول غير الأوروبية وحتى المقيمين بصفة غير موثقة على المشاركة في الإحصاء، والثانية تشجيع السكان على استخدام الإنترنت لملء إستمارات الإحصاء نظراً إلى أن نسبة كبيرة من الإستمارات سيتم تعميمها الكترونياً.
مهمة صعبة
المهمة ليست سهلة، خصوصاً وأن المتابعين لحملات الإحصاء يعرفون أن إقناع السكان، لاسيما الأكثر استفادة من الإحصاء، بالمشاركة، ليست بالمهمة السهلة، فكيف الحال إذاً في ظل إدارة تثير كل أنواع الشكوك والخوف، وتجعل العلاقة مع المؤسسات الفدرالية ككل غير صحية على الوجهين. ففي الوجه الأول رئيس فالت من عقاله يشكك بكل المؤسسات وأعمالها وأرقامها، وفي الوجه الآخر الرئيس نفسه يسخّر تلك المؤسسات، ولا سيما الشرطة والمؤسسات الأمنية ووكالة الهجرة والجنسية لتخويف الناس وخصوصاً الأقليات والمهاجرين؟ من الصعب التكهن بالجواب، وإن كان المنطق يقول ان الجواب لن يكون جيداً، هذا إذا كان مقبولاً.
حملنا هذا السؤال إلى العضو العربي الأميركي الوحيد في اللجنة الاستشارية الوطنية للعرق والإثنية، المدير التنفيذي للمركز العربي للخدمات الاقتصادية والإجتماعية (أكسس) حسن جابر الذي يبدو أنه كان يود أن يتحدث عن الإحصاء في ظروف وأجواء أكثر إيجابية. السبب في ذلك أنه وبعد عقود من السعي والنشاط والمحاولات والدراسات حقق العرب الأميركيون ما يمكن أن يربو إلى نجاح مع مكتب الإحصاء الفدرالي لجهة تخصيصهم بخانة فرعية في الإحصاء، تعفيهم من مغبة شمولهم في التعريف مع العرق الأبيض، كما هو الحال حتى الإحصاء الأخير عام 2010. ربما كان الأفضل بالنسبة له أن تكون مقدمة دعوة العرب الأميركيين إلى المشاركة في الإحصاء المقبل قائمة على حقيقة أن مكتب الإحصاء خصص لهم فئة فرعية على قاعدة «لا يموت الذئب ولا يفني الغنم»، حيث صار بمقدورهم أن يشيروا إلى أنفسهم في الإحصاء كـ«شرق اوسطيين» و«شمال افريقيين»، وأخذاً بالإعتبار للحساسيات الأقلوية، يمكن لمن يشاء أن يضيف إلى ذلك، الهوية الأقلوية الأقدم كالكلدانية أو البربرية أو القبطية على سبيل المثال.
تطمينات
لكن ذلك لم يمنع حسن جابر من التأكيد على ضرورة المشاركة في الإحصاء بفعالية «لأن في ذلك مصلحتنا كمجموعة وكأفراد، فأرقام الإحصاء تترجم في مشاريع تنموية وفي موازنات التعليم والتدريب المهني والتوظيف وحتى في ترسيم الدوائر الانتخابية التي تلحظ التكوين الإثني للناخبين».
ويشدد جابر على أن القانون يمنع تماماً استخدام بيانات الإحصاء لأية أهداف أخرى كما يمنع التشارك فيها مع أية وكالات حكومية فدرالية أو محلية أخرى، وبالتالي لا خوف من التفاعل مع مكتب الإحصاء، ومن ملء الإستمارات. ودعا إلى المساهمة الفعالة في التجاوب مع الإحصاء عبر الإنترنت، مؤكداً أن «أكسس» والكثير من المؤسسات الرديفة سيولون أهمية قصوى لمسألة سرية المعلومات ولن يتهاونوا في حال ارتيابهم من محاولات استغلالها في الأجواء الحالية.
لا تبدو مهمة جابر والمركز العربي والمؤسسات الشبيهة في الجالية أو مهمة الذين شاركوا في المؤتمر الصحفي سهلة، فالخوف سيد المشاعر، والعرب الأميركيون في معظمهم، شأنهم شأن الكثير من الإثنيات والمهاجرين والمهمشين يشعرون بخوف مبرر تجاه هذه الإدارة وتجاه رئيس غير مألوف مثل ترامب، لكن الأمل معقود على العام المقبل، تحديداً الانتخابات التشريعية النصفية التي تشمل كامل مجلس النواب وثلث أعضاء مجلس الشيوخ، ففيه سيكون الموعد الأول لترامب مع الناخب الأميركي، وفيه يأمل كثيرون، بل يتصرفون منذ الآن على أساس أنه سينهي القبضة الجمهورية على مقاليد أميركا. إذا حصل ذلك وصار الكونغرس مناوئاً بالتكوين لترامب، تصبح كل هذه المخاوف قديمة. وإن لم يحصل ذلك، على أميركا وعلينا جميعاً، الاستعداد لنتائج إحصاء يظهر البلاد أكثر بياضاً وأكثر أوروبية وأكثر عنصرية.
Leave a Reply