لم تنتظر الاوضاع اللبنانية شديدة التأزم الموعد الجديد للقاء الوزاري العربي المقرر في القاهرة يوم الاحد في 27 الجاري لتقييم نتائج الجهود التي بذلها الامين العام للجامعة العربية عمرو موسى لتنفيذ المبادرة العربية التي اغرقها اللبنانيون في مستنقعات خلافاتهم وتفسيراتهم المتباينة لنصها العربي. بل استبقتها بموجة الاضرابات العمالية التي لم تخل من العنف في بعض المناطق وان مرت «بسلام» مقارنة بمثل هذه الايام من العام الفائت التي شهدت بوادر فتنة كادت تعيد ادخال لبنان في نفق الصراعات الاهلية واخطرها هذه المرة الصراعات المذهبية التي تبلورت معالمها منذ نحو ثلاث سنوات واكتملت عناصر اندلاعها في شارع يجري تزويده على مدار الساعة بكل مقادير الانفجار اللازمة.الوضع اللبناني كما بات معروفاً صار شديد الخضوع للتجاذبات العربية والاقليمية والدولية وعصياً على التفلت من خيوطها وتشابكاتها الى درجة احدث «النص العربي» للمبادرة صراعاً «لغوياً» حول احد بنودها المتعلق بعدم منح ارجحية في الحكومة للاكثرية النيابية ومنع الثلث المعطل عن المعارضة، والابقاء على الحصة الترجيحية في يد رئيس الجمهورية العتيد الذي عينه العرب بالاسم هذه المرة وهو قائد الجيش العماد ميشال سليمان، المرشح التوافقي الذي لا يزال توافقيا حتى كتابة هذه السطور على ذمة الموالاة والمعارضة.ليست المشكلة في نص المبادرة من نوع «ال التعريف» التي اشتهر بها القرار الدولي 242 المتعلق بالانسحاب من «اراضٍ عربية محتلة» حسب النص الانكليزي (البريطاني) والانسحاب من «الاراضي العربية المحتلة» حسب النص الفرنسي.دخل الافرقاء اللبنانيون في معضلة فقه اللغة هذه المرة وتباروا في الغوص في التعليلات والاستنتاجات قبل ان يخرج عليهم عمرو موسى بتفسير اعجب فريق الموالاة واغضب فريق المعارضة الذي سرعان ما انتقد انحياز العرب الى فريق من اللبنانيين ضد الآخر.مكث عمرو موسى في لبنان اياماً قطعها بزيارة دمشقية خاطفة قيل انها كانت محفوفة بمخاطر عملية اغتيال على طريق عودته الى بيروت ورعى خلالها تكريس عاصمة الامويين عاصمة للثقافة العربية، في حين كان اللبنانيون يغرقون في عجز لغوي ثقافي فضلاً عن عجزهم المزمن عن توجيه اية قرارات عربية او دولية بما يؤالف بين مصالحهم الوطنية الملحة في تجاوز هذه الازمة المتجددة في تاريخ علاقاتهم الاشكالية الذي لا ينتهي.لا يقرّ الافرقاء اللبنانيون ان ازمتهم خارجية المنشأ وان عززتها اختلافاتهم الداخلية التي يجب ان لا تفسد في ودهم قضية وهم يصورون لـ«شعوبهم» ان وزيراً زائداً او ناقصاً في أي حكومة مقبلة سوف يحدد وجهة المصير اللبناني برمته ويخرج كل شياطين الازمة من تفاصيل «الصفقة» التي يحاولون بواسطتها بناء وطنهم من جدد بعدما خربته الحروب وشرذمت اهله الخلافات منذرة برميه مجدداً في اتون الحروب والصراعات.لو يعلم كل اللبنانيين ان اسباب ازمتهم الرئاسية والحكومية والوجودية حتى، لا ترتبط بتوزيع الحصص داخل الحكومة بل في تناقض المشاريع المطروحة لانهاء الصراع المزمن في المنطقة وفي ان استكانتهم ورضوخهم لمنطق التمثيل الطائفي الذي يجعلهم رعايا في طوائفهم وليس لدولة مدنية عادلة جامعة هو العلة الاساس في ما آلت اليه اوضاع بلدهم من ترد وتقهقر واهتراء سيجعل منهم قريباً «شعوباً» فاشلة في دولة فاشلة.ولو يعلم اللبنانيون ان ما يقوله سياسيوهم همساً هو غير ما يصدحون به على المنابر والشاشات، فالازمة في الكواليس هي غيرها فوق رؤوس الفقراء والمعدمين الذين تخرجهم لقمة العيش الى الشارع لممارسة العنف ضد « الدولة» (اي دولة؟).فليس سراً ان كل الافرقاء من موالاة ومعارضة وما بينهما يدركون عجزهم عن اتخاذ قرارات حاسمة تتعلق باستعادة عيشهم المشترك اذا لم تمر هذه القرارات تحت ضوء اخضر خارجي عربي – اقليمي – دولي.غداً اذا رأفت الاقدار باللبنانيين وتفاهم العرب (السعوديون والسوريون والمصريون) بمباركة دولية فلن نعود نسمع لا بالثلث الضامن ولا بالنصف زائد واحد ولا بغيرهما من التسميات التي هبطت على لبنان في ازمته القائمة وسوف يهلل المتحاربون على المنابر والشاشات للحل مثلما حصل مع اتفاق الطائف الذي انهى الحرب الاهلية ولكنه ابقى على جذوتها تحت رماد الانتظار للحلول الصعبة او المستحيلة للازمة الكبرى، ازمة الصراع العربي – الاسرائيلي.غداً يعود عمرو موسى الى العاصمة اللبنانية بعد انفضاض الجمع الوزراي العربي في القاهرة، وقد لا يحمل معه المن والسلوى كما في المرات السابقة اذا بقي «جمل العرب» بنية وجمّالهم بنية وحملهم اللبناني بنية كما يحلو لرئيس المجلس النيابي اللبناني نبيه بري ان يعبر باستمرار، وبالتالي فقد يظل جمل الازمة باركاً فوق صدور اللبنانيين وهم يفقدون الصبر ساعة بعد ساعة ويلجأون الى شوارعهم للتنفيس عن غضبهم واحباطهم وفي اياديهم ارغفة الخبز شعار تحركاتهم التي لم تعد تنطلق بشعارات الممانعة والصمود والتصدي على المنابر الحزبية والسياسية، بل بمطالب تأمين لقمة العيش ووقود التدفئة امام المخابز ومحطات المحروقات.ثمة انقطاع شبه تام بين القضايا الحقيقية للناس واهتمامات حكامها و«اولي امرها». وما يبعث على القلق، قبل العجب، ان الحكام يجدون دائماً الجماهير التي تخرج هاتفة بحياتهم ومدافعة عن مواقفهم في انسياق غرائزي الى لعبة الموت، موت السياسة وموت التفكير وموت الارادة الذي يجعل من «الجماهير» جثثاً او مشاريع جثث تتحرك نحو مصائرها السوداء في عالم يضج بالبحث عن الافضل والانجح لحياة البشر في كل دقيقة وثانية.مشهد الغزاويين المختنقين في سجنهم الكبير وهم يندفعون نحو جدار رفح مطيحين به للعثور على اسباب للحياة في الارض العربية المجاورة يحمل اكثر من معاني الشجاعة والاصرار على الحياة وتأمين اسباب الصمود في عتمة لياليهم..انه رمز للتمرد على السجن العربي الاكبر الذي ابقى شعوب المنطقة رهائن انتظار صراع اخفق الكل في ادارته ويرفضون الاعتراف باخفاقهم والتخلي عن عروشهم لافساح المجال امام الشعوب كي تختار حكاماً يمثلون تطلعاتها الحقيقية الى غد افضل.اما اللبنانيون فلسوف يدركون متأخرين وبعد ما يبلغهم عمرو موسى ان اخوانهم العرب ادوا قسطهم للعلى في محاولة مساعدتهم على تخطي أزمتهم، وما عليهم الا تقليع شوكهم باياديهم.. انهم اضاعوا الفرصة تلو الفرصة لتحصين ساحتهم في منطقة تقع في عين العاصفة الدولية القادمة ولن ينفعهم عض الاصابع والندم على ما فاتهم.
Leave a Reply