صحيحٌ أنّ “واقعية صنع القرار” في واشنطن قد فرضت نفسها على الرئيس أوباما عقب تولّيه منذ سنواتٍ ثلاث سدّة الرئاسة الأميركية، فتراجع الكثير من شعاراته حول التغيير في قضايا داخلية عديدة، لكن ما دعا إليه في مجال السياسة الخارجية، في الأشهر الأولى من حكمه، لم تحصل بشأنه حتّى الآن تراجعات كثيرة، خاصّةً في مجال الحرص على عدم توريط الولايات المتحدة في حروب جديدة، وعلى إسقاط مقولات الإدارة السابقة حول “الحروب الإستباقية”، وعلى وقف الانفراد الأميركي في أزماتٍ دولية واعتماد مرجعية “مجلس الأمن” لحلّ النزاعات الدولية.
طبعاً، الفشل الأبرز الذي حصل في السياسة الخارجية لإدارة أوباما هو عدم قدرتها على إجبار إسرائيل على وقف الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبالتّالي عدم تحقيق أي إنجاز في الملف الفلسطيني أو التسوية الشاملة للصراع العربي الإسرائيلي. لكن هذا “الفشل الأوبامي” يعني انتصاراً لحكومة نتنياهو التي تزامن وجودها مع بدء إدارة أوباما، والتي دعت منذ مجيئها إلى ضرورة التعامل مع أولويّة “الملف النووي” الإيراني وإلى مواجهة طهران عسكرياً وليس فقط بواسطة العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية. وها هي إسرائيل تضغط الآن بأشكال مختلفة على إدارة أوباما من خلال أعضاء الكونغرس والإعلام ومراكز الأبحاث والحملات الانتخابية للمرشّحين الجمهوريين من أجل دفع إدارة أوباما إلى الخيار العسكري مع إيران. لكن ما نجح فيه نتنياهو، ومن معه في أميركا من قوى ضغطٍ فاعلة، في تهميش “الملف الفلسطيني” لا يمكن سحبه على “الملف الإيراني”. فعسكرة الخلاف الأميركي مع إيران هو مواجهة مرفوضة الآن على المستويات العسكرية والأمنية الأميركية، وأيضاً في دوائر صنع السياسة الخارجية، بسبب المحاذير العسكرية والأمنية لهذا الملف، وبسبب ارتباطه أيضاً بالعلاقات الأميركية مع روسيا والصين والهند وتركيا، وهي دول ترفض اعتماد الوسائل العسكرية مع طهران، إضافةً إلى رفض عدّة دول أوروبية لمثل هذا الخيار لأنّه سيعني أزمة طاقة خانقة لشعوب أوروبا، وسيؤدّي إلى مزيدٍ من الانهيار الاقتصادي لبعض دولها.
العامل الإسرائيلي هو مهمٌّ جدّاً في هذه الأزمة بين الغرب عموماً، وواشنطن خصوصاً، وبين طهران. ففي منطقة الشرق الأوسط تقف إسرائيل وحدها على ترسانة أسلحة نووية كبيرة، ترسانة لا يعير الغرب أيَّ اهتمامٍ لمخاطرها في المنطقة بينما يحول (الغرب) دون امتلاك أيِّ دولةٍ عربية أو إسلامية في المنطقة للسلاح النووي. ولا قيمة أصلاً للحجّة التي يقوم عليها هذا الموقف الغربي بأنّ إسرائيل هي دولة ديمقراطية حليفة يمكن الوثوق بها. فكثيرٌ من بلدان الشرق الأوسط يرتبط بعلاقاتٍ خاصّة مع أوروبا والولايات المتحدة ولا يُسمح لهذه البلدان بامتلاك السلاح النووي. ولعلّ خير مثالٍ على ذلك هو تركيا التي ترتبط بحلف الناتو، وفيها نظام علماني ديمقراطي، لكن الغرب بالرغم من ذلك يمنعها من دخول عضوية “النادي النووي”!.
العامل الإسرائيلي يضغط الآن لتحقيق مواجهة عسكرية مع إيران. ففي حال حدوث هذه المواجهة تستكمل إسرائيل ما حقّقته حتى الآن من “إنجازات” بعد 11 أيلول (سبتمبر) 2001 تحت شعار “الحرب على الإرهاب الإسلامي”. فإسرائيل تحصد دائماً نتيجة أي صراع يحدث بين “الغرب” و”الشرق”، وبما يُعزّز دور إسرائيل بالنسبة للدول الغربية الكبرى وفي مقدّمتها الولايات المتحدة، والحاجة الأمنية إليها.
إنّ المواجهة العسكرية بين الغرب وإيران ستؤدّي إلى تدميرٍ كبير لدى الطرفين معاً، وستكون ساحاتها ممتدّة أيضاً إلى العديد من المدن العربية، وستطال كوارثها الثروات النفطية والمالية العربية، وربّما تدفع نتائجها إلى مغادرة القوات الأميركية لبعض أرجاء المنطقة، وإلى الاعتماد الأميركي من ثمّ على القوة العسكرية الإسرائيلية.
كذلك، فإنّ من شأن تصعيد الأزمة مع إيران والمواجهة العسكرية لها أن يوجد مناخاً من الصراعات الداخلية في عدّة بلدان عربية، ممّا يُشعل حروباً أهلية عربية وإسلامية تفكّك أوطاناً وتدعم المشروع الإسرائيلي للمنطقة، العامل على إقامة دويلات طائفية وإثنية تحكمها “الإمبراطورية الإسرائيلية اليهودية” التي تبحث الآن عن الاعتراف بإسرائيل كدولةٍ “يهودية”.
أيضاً، في الحسابات الإسرائيلية أنّ إسرائيل ستتعرّض إلى ضرباتٍ عسكرية من إيران وحلفائها بالمنطقة، لكن ستكون إسرائيل (بحساباتها) الأكثر استفادة سياسياً وإستراتيجياً، مع بقاء الكيان الإسرائيلي موحّداً بل أكثر قدرة على تعزيز الاستيطان في الأراضي المحتلة وممارسة التهجير القصري للفلسطينيين من داخل إسرائيل ومن الضفة، وربّما للضفة الشرقية من نهر الأردن حيث هو مشروع إسرائيل الآن للوطن الفلسطيني البديل.
هي مراهناتٌ مشترَكة مع إسرائيل من أكثر من طرفٍ على تصعيد أجواء التوتّر السياسي المذهبي في المنطقة، وعلى توظيف أخطاء عربية هنا أو إيرانية هناك، لكن من الذي سيتمكّن من تدارك تفاعلات التصعيد العسكري المحتمل ضدّ إيران، وما قد ينتج عنه من حروبٍ إقليمية وصراعاتٍ عربية داخلية؟!.
إنّ الصراع الأميركي-الغربي مع إيران يستقطب الأطراف العربية بشكلٍ حاد، وقد حصلت في هذا الصراع استباحةٌ لكلّ الأساليب، بما فيها أسلوب التعبئة الطائفية والمذهبية، واستخدام وسائل الإعلام وتجييش الأقلام لصالح هذا الطرف أو ذاك. لكن بالمحصّلة، أصبحت المنطقة العربية، ولمصالح مختلفة، ساحاتٍ لهذا الصراع في ظلّ غياب مرجعيةٍ عربية فاعلة أو حدٍّ أدنى من “المشروع العربي” القادر على مواجهة “المشاريع” الإقليمية والدولية المتنافسة على المنطقة.
إنّ معالجة الأزمة بشأن “الملف الإيراني” لم تعد تحتمل التأجيل، وهي تقترب من لحظة الحسم الذي تتمنّى إدارة أوباما أن يكون سياسياً، بينما تحاول إسرائيل أن تجعله حسماً عسكرياً يورِّط الولايات المتحدة، مرّةً أخرى بعد العراق، في حربٍ تخسر فيها أميركا والغرب والعرب وإيران، وتكون إسرائيل الرابح الأكبر من نتائجها.
نعم، “المسألة الإيرانية” هي أساس لإدارة أوباما بشأن عموم ملفات الشرق الأوسط، ولأفغانستان المجاورة لإيران، ولمصير الصراع العربي-الإسرائيلي وما قد يترتّب على تجاهله من نتائج سلبية كبيرة على العالم وعلى منطقة الشرق الأوسط كلّها… لكن إدارة أوباما لن ترتكب حماقة لم ترتكبها إدارة بوش رغم سمة الحماقة التي تميزت بها الإدارة السابقة، ورغم الضغوط الإسرائيلية. فهناك الآن فرصة لتسوياتٍ سياسية تشمل الملفّين الإيراني والسوري، وتعتمد التنسيق لا المواجهة مع القطبين الروسي والصيني، من أجل منع تطوّر هذين الملفين إلى حروبٍ إقليمية وأهلية لن تحصد واشنطن منها أكثر ممّا حصدته في حربها على العراق، وممّا تحصده الآن في حربها بأفغانستان.
وهناك حتماً ضغوطٌ كثيرة ستمارسها واشنطن على طهران لدفعها إلى القبول بالشروط الأميركية للحوار معها، لكن بإمكان إيران أيضاً تحصين وتحسين وضعها التفاوضي من خلال عمقها الاستراتيجي المهم في المنطقة العربية والعالم الإسلامي عموماً. وإذا كان الرئيس أوباما قد أكّد قبل ثلاث سنوات في خطاب القسم الدستوري، على حرصه على مدّ اليد لخصوم أميركا والتحاور معهم ومع العالم وفق قاعدة “الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة”، فأولى بدول المنطقة أن تفعل ذلك تجاه بعضها البعض. وهذا يتطلّب من طهران (الدولة الإسلامية الإقليمية الكبيرة) نزع كل الألغام التي زُرعت في السنوات الماضية وأوجدت حالةً من الحذر والخوف لدى الدول العربية الصغيرة المجاورة لإيران، خاصّةً في ظلّ تصريحاتٍ متبادلة غير مسؤولة أحياناً، أو عدم حلّ قضايا عالقة منذ حكم الشاه، كقضية الجزر الإماراتية، أو الامتناع عن استخدام التسمية التي أطلقها الإمام الخميني لمنطقة الخليج بأنّها منطقة “الخليج الإسلامي” كحلٍّ لإشكالية تسمية “الخليج الفارسي” أو “الخليج العربي”.
إنّ إيران ساهمت بلا أيّ شك في تعزيز عناصر الصمود العربي المقاوم للاحتلال خلال السنوات الماضية وفي إسقاط مشاريع “شرق أوسطي جديد”، وهي مطالبة الآن بالمساهمة في تعزيز علاقاتها الإيجابية مع جوارها العربي، ففي ذلك مصلحةٌ عربية وإيرانية مشتركة، وتعزيزٌ للموقف الإيراني المفاوض مع العالم كلّه. أمّا بالنسبة للعرب، فإنّ أمامهم خياراً لن يخرج عن أحد أمرين: إمّا التضامن القومي والتوحّد الوطني الداخلي ووضع رؤية عربية مشتركة للتعامل مع كلّ القوى الدولية والإقليمية المعنيّة بالمنطقة، أو الدخول في “اللعبة الإسرائيلية” وما فيها من شرذمة فتّاكة للشعوب والكيانات والثروات!
Leave a Reply