علي حرب – صدى الوطن
العدالة الاميركية تُضْرَب فـيها الأمثال فـي موضوعيتها وعدم انحيازها، ما عدا طبعاً اذا تعلَّق الأمر بمحاكمة أحد النشطاء أو المناضلين العرب الأميركيين، أو إذا جرى ذكر الكيان الاسرائيلي بسوء لأنَّ دولة الاحتلال والإرهاب هي من المقدسات المتغلغلة ليس فـي أروقة ونصوص ونفوس الكونغرس الاميركي فحسب، بل فـي كافة مفاصل الحياة الاميركية وحتى القضاء.
رسمية عودة تتوسط مناصريها مبتسمة قبل صدور الحكم بسجنها: يوماً ما سوف نجد العدالة فـي مكان ما فـي هذا العالم ! |
هذا بالضبط ما حصل فـي المحاكمة السياسية الإنتقائية للناشطة فـي مجال الحقوق المدنية الفلسطينية رسمية عودة التي كانت محاكمتها الماراثونية إجهاض فعلي لمفهوم العدالة وسط نأي مريب بالنفس وتنصُّل من قبل الجالية العربية الاميركية فـي مترو ديترويت. وشهدت مسيرة المحاكمة تنحي القاضي الأصلي بصعوبة بعد اكتشاف علاقات صهيونية وثيقة له مع قادة اسرائيل، لكن القاضي الفيدرالي غيرشوين أ. درين، الذي حل مكانه لم يكن أفضل من سلفه بعد أنْ «حرَّم» ذكر إسرائيل وممارساتها الوحشيَّة التعسفـية ضد عودة خلال المحاكمة والتي جرى خلالها انتزاع اعتراف مزعوم منها بالذنب تحت الإكراه والتعذيب والإرهاب والاغتصاب.
ولم تأخذ هذه المحكمة بالناحية الانسانية المتعلقة بالحالة النفسية والعقلية والعصبية لانسانة خضعت لأسوأ معاملة من قبل إسرائيل مما تسبب بوقوع آثار وقروح وجروح نفسية وعصبية وجسدية لم تندمل رغم مضي أكثر من أربعة عقود طبعاً لأنها قد تدين اسرائيل. ولم تأبه المحكمة الموقرة لتظاهرات المؤيدين والناشطين فـي مجال حقوق الانسان والداعمين لرسمية عودة ضد هذه المحاكمة السياسية، فوجدت «هيئة المحلفـين الفـيدرالية الأميركية» فـيها أنَّ عودة مذنبة «بالشراء غير القانوني للجنسية الأميركية»، مما أثلج قلب القاضي درين لدرجة انه لم يخف موافقته وتحمٌُسه لهذا الحكم الجائر الذي صدر يوم الاثنين الماضي، وبعد أنْ امتدحه لم يتوانَ عن الحكم بإلغاء سند كفالة عودة، مما أدى الى اعتقالها على الفور من قبل عناصر الأمن الفـيدراليين وإيداعها السجن.
وكانت عودة (٦٧ عاماً) اتهمت بالكذب لدى ملء طلب الجنسية الأميركية حول ملابسات اعتقالها وإدانتها المزعومة من قبل الإحتلال الإسرائيلي منذ نحو ٤٥ عاماً، بعد اتهام قوات الإحتلال لها عام ١٩٦٩ بالمشاركة فـي عملية فدائية. لكن قوات الإحتلال الإسرائيلي استندت فـي حكم الإدانة على الاعترافات القسرية التي تم الحصول عليها عن طريق التعذيب والإغتصاب.
وكان محامي الدفاع يخطط لإثبات أن عودة تعاني من اضطراب نفسي وعصبي ما بعد الصدمة من جراء التعذيب الذي تعرضت له فـي سجون إسرائيل، والذي أثر فـي استيعابها للأسئلة المطروحة فـي طلب التجنيس حول ما إذا كانت اعتقلت أو أدينت فـي محكمة فظنت أنَّ المقصود بسجلها العدلي فـي أميركا فقط وليس فـي إسرائيل، خصوصاً وأن اعتقالها فـي إسرائيل لم يكن سراً وكانت تعلم به وزارة الخارجية والسفارة الأميركية فـي تل أبيب. لكن القاضي درين ألغى شهادة الخبير النفسي المتعلقة بحالتها العصبية ومعاناتها ومنع أي ذكر للتعذيب الصهيوني فـي المحاكمة.
وقال المحامي الرئيسي لعودة مايكل دويتش أنه ينوي استئناف الحكم لأنَّ قرار القاضي بعدم تضمين التعذيب وذكر حالة الاضطراب النفسي ما بعد الصدمة ألغى ٧٥٪ من حجة الدفاع. وأضاف «هذه ليست محاكمة كاملة وعادلة».
وقال الناشط العربي الأميركي فـي شيكاغو حاتم أبو دية وهو عضو «لجنة الدفاع عن رسمية» أنَّ القاضي «قرر حجب أدلة حول التعذيب والاضطراب النفسي ما بعد الصدمة فـي الوقت الذي سمح بعرض أدلة من المحاكم العسكرية الإسرائيلية، حيث اضطرت رسمية إلى الاعتراف بالذنب بفعل جريمة الاغتصاب ضدها» وتساءل «كيف يمكننا فـي الولايات المتحدة أنْ تسمح لهذا النوع من الأدلة فـي قاعات المحاكم لدينا»؟.
وأضاف «أن القضية برمتها سياسية» موجهاً نقداً لاذعاً إلى المدعين الفـيدراليين الذين تسلموا قضية عودة واصفاً إياهم بأنهم «عنصريون ضد العرب».
وكشف أبو دية أن جوناثان توكل، المدعي العام الرئيسي فـي القضية، هو المنظر العقائدي للجناح اليميني الذي سخر حياته المهنية لملاحقة العرب والمسلمين مقارناً إياه بالقس الحاقد المتطرف تيري جونز.
وكان المؤيدون لعودة يحتجون أمام المحكمة فـي ديترويت طوال أيام المحاكمة وخلال جلسة الاستماع ما قبل المحاكمة.
وحضر أكثر من ١٠٠ شخص، معظمهم من شيكاغو، حيث تسكن عوده مع غيابٍ لافت لعرب ديترويت، إعلان الحكم بحق عودة والتي توجهت للجمهور بعد النطق به قائلةً «يوماً ما سوف نجد العدالة فـي مكان ما فـي هذا العالم».
وحذر القاضي الجمهور المنفعل فـي قاعة المحكمة بضرورة التزام الصمت بعد الإعلان عن قرار «هيئة المحلفـين» فساد الصمت لفترة إلى أنْ كشف القاضي عن انحيازه مشيداً بنفسه، عكس الأصول، بقرار أعضاء هيئة المحلفـين.
وزعم القاضي انه عادةً لا يُعلق على الأحكام التي يطلقها المحلفون «لكن قرار لجنة المحلفـين كان عادلاً ونزيهاً»!
وبعد «رأي» القاضي (غير الإعتيادي) رفعت امرأة فـي قاعة المحكمة صوتها بالإعتراض على القرار، فما كان من شرطة أمن المحكمة إلا أنْ قاموا بمرافقتها للخروج من قاعة المحكمة على الفور.
وكان المدعون العامون هم اكثر المبتهجين والمحتفلين بقرار «هيئة المحلفـين» فعَلَتْ ضحكاتهم مع الإبتسامات العريضة مما أخرج أبو دية عن طوره وأفقده رباطة جأشه فرد بغضب على هذا العرض الشامت، متوجهاً إلى وكيل وزارة الأمن الداخلي الخاص ستيفن ويبر، الذي كان حقق فـي قضية عودة وشهد ضدها فـي المحاكمة، «إمسح تلك الإبتسامة عن وجهك، أيها الخنزير».
وعلى الأثر تم طرد ابودية من قاعة المحكمة. وبعد أنْ هدأ روعه قليلاً فـي الخارج اعترف فـي دردشة مع «صدى الوطن» إنَّ عمله كان غير منضبط. وأردف «كان العمل رد فعل عاطفـي ناجم عن فورة (غضب). لن نخضع للترهيب من قبلهم. هذه النيابة العامة لديها السلطة والموارد الهائلة، ولكن إذا كانت تريد أن تكون عنصرية فـي طريقة تعاملها معنا، فسنقوم بتحديها».
وانتقد محامي الدفاع دويتش بدوره تعليق القاضي على الحكم، واصفاً إياه بأنه «غير عادي مطلقاً ومؤسف»، وبأنه «نافذة تطل على ما يفكر به القاضي».
بعد صدور الحكم، اخذت المحكمة استراحة لفترة ساعتين تقريباً قبل ان تلتئم مجدَّداً ليقرر القاضي (المبتهج) حول قضية الكفالة المرصودة لعودة للإبقاء عليها حتى إكمال حكم الاستئناف أو إلغاء الكفالة وسوق عودة الى السجن على الفور.
وتحدثت عودة إلى مؤيديها خارج المحكمة خلال الاستراحة وحثهتم على الصمود والبقاء أقوياء. وفـي خطاب ناري، كرر أبو دية بدوره وجهة نظره بأن التهم الموجهة لعودة ما هي إلا لتوجيه ضربة إلى النشاط الفلسطيني فـي الولايات المتحدة. وأكد«كل هذه القضية هي عن فلسطين».
وأضاف «أن المعركة القانونية لم تنته بعد ونحن فـي طريقنا للاستئناف، ونحن فـي طريقنا لتحقيق الفوز».
وبعد انتهاء الاستراحة والعودة مرة أخرى لقاعة المحكمة، طلب المدعي العام توكل سحب سند الكفالة المالية مدعياً أن عودة تشكل خطراً «سفرياً» لأنها تعتبر مسافرة متكررة ولأن جنسيتها الأميركية ألغيت تلقائيا بعد الإدانة. وأردف «يمكنها الفرار إلى الأراضي الخاضعة للسلطة الفلسطينية حيث لا تملك الولايات المتحدة اتفاقات تبادل للأسرى والمتهمين مع هذه السلطة».
ورد المحامي دويتش بأنَّ عوده تنوي البقاء فـي الولايات المتحدة. وسلط الضوء على حقيقة أنها رفضت صفقة التماس من شأنها أنْ تسمح لها بمغادرة الولايات المتحدة طوع إرادتها دون أنْ تخضع لأي عقوبة فـي السجن كمؤشر على نيتها بالبقاء فـي شيكاغو. وأضاف أن سنها وعلاقاتها بجالية ومجتمع شيكاغو هي ضمانة بأنها سوف تظهر فـي جلسة النطق بالحكم عليها.
لكن القاضي المصر على حماسه لقرار الإدانة استبعد حتى حقيقة أن لدى عودة «صلات وثيقة حقيقية مع الجالية فـي شيكاغو»، مستشهداً بمحاولة فرارها من السجن الإسرائيلي للدلالة على أنها عرضة للهرب، رغم انه منع استخدام أدلة التعذيب الإسرائيلي لكن قرائنه على ما يبدو اختيارية.
وأمعن درين فـي انحيازه حتى النهاية فوصف عودة بأنها «لم تعد تحمل فرضية البراءة»، بالرغم من ان عملية المحاكمة بكل مستوياتها لم تكتمل ولم تُستهلك بعد. وحكم درين بإلغاء سند الكفالة المالية فقام شرطة المحكمة ورجال الأمن على الفور بتقييد يديها فـي نهاية الجلسة. ولم يُسمح للجمهور فـي قاعة المحكمة وفـي الغرفة الجانبية المحاذية، التي كانت تستمع إلى البث المباشر حول وقائع الجلسة، بمغادرة القاعتين لبضع دقائق إلا بعد اصطحاب عودة بمفردها خارج القاعة.
وإثر مغادرة، عودة اقتربت منها امرأة كانت بين الحضور وقالت لها: «أنا أحبك». وردت عودة «أنا أحبك أيضاً. أنا قوية جداً». واستغرب أبو دية زعم القاضي بأن عودة ليسة لديها علاقات مع المجتمع فـي شيكاغو والذي «لا معنى له»، خصوصاً بعد إقراره بوجود مؤيدين كثر لعودة فـي قاعة المحكمة.
وقال القاضي لمحامي الدفاع دويتش إنه يمكنه إذا أراد تقديم التماس لإعادة النظر فـي إصدار سند كفالة مالية، وأكد المحامي عزمه بأنه سوف يطعن فـي القرار لكنه أضاف أنه لا يتوقع من هكذا قاضٍ أن يغير رأيه مضيفاً «لن أضع الكثير من الأمل فـي هذا القاضي».
وسيصدر الحكم على عودة يوم ١٠ اذار (مارس) الساعة ١١ صباحاً، ويمكن أن تواجه رسمية عودة عقوبة السجن والترحيل.
وانتقد الناشط العربي الأميركي جورج خوري عدم وجود دعم من الجالية العربية الأميركية فـي ديترويت لقضية عودة. ولخص خوري الموقف بالقول «رسمية تمثل فلسطين. لماذا لم يقف الناس هنا معها؟ هذه مسألة يجب علينا معالجتها فـي لقاءاتنا المقبلة كمنظمين».
Leave a Reply