إدانت هيئة المحلفـين الفـيدرالية التي كانت تنظر فـي قضية المناضلة الفلسطينية وناشطة المجتمع المدني العربية الأميركية رسمية عودة، بتهمة الكذب المتعمد على طلب الهجرة والتجنس وبالتالي الحصول غير القانوني على الجنسية الاميركية، وذلك فـي جلسة ختامية صاخبة عُقدت يوم الإثنين الماضي بالمحكمة الفـيدرالية فـي ديترويت. وبدت محاكمة عودة مهزلة قضائية لا تليق بسمعة القضاء الأميركي الذي يتباهى بـ«العدالة العمياء»، أمَّا التهم الموجهة الى المرأة السبعينية، وإن كانت مخالفة لقوانين الهجرة والتجنس المرعية الإجراء فإنها لا ترتقي الى جرم يستحق كل هذا الإهتمام الفـيدرالي والصخب الإعلامي، وما يترتب عليه من تخصيص الأموال والقدرات القانونية والأمنية، فـي وقت يسرح ويمرح فـيه تجار المخدرات والقتلة وسارقو أموال الناس والفاسدون فـي الدولة وخارجها والإرهابيون، أرجاء البلاد دون ملاحقة أو محاكمة، بل يترك بدون عقاب أو حساب من كذب على الشعب الأميركي والعالم بأسره فـي وضح النهار، وساقنا الى حرب مكلفة غير أخلاقية، مخالفة للقوانين الأميركية والدولية معاً، وقتل مئات الآلاف من الأبرياء فـي العراق وأفغانستان ودمر بلادهم ونهب ثرواتهم، كما أنهك إقتصاد الأمة الأميركية وأوصلها الى حافة الإفلاس الإقتصادي والأخلاقي ونال من مكانتها المرموقة بين الأمم. مما يعزز القناعة بأن التهم الموجهة لـ «عودة» والاسلوب الذي اعتمد فـي محاكمتها لا علاقة لهما بسيادة القانون إطلاقاً. وليست المقاضاة إلا تعبيراً عن هز الأصبع فـي وجه الجالية العربية الأميركية، مجدداً.
فقد سمح القاضي الفـيدرالي غيرشوين درين للإدعاء العام بتوزيع اتهاماته كما يحلو له، ويخاطب هيئة المحلفـين بأن رسمية عودة أُدينت فـي محكمة إسرائيلية بعملية تفجير عندما كانت فتية، منذ اكثر من اربعة عقود مضت، وترزح تحت الإحتلال، لكنه فـي الوقت نفسه منع محامي الدفاع من التوضيح لهيئة المحلفـين أنَّ إدانتها كانت نتيجة اعتراف إنتُزع منها تحت الضعطٍ والترهيب والإكراه وحتى الإغتصاب من قبل جيش الإحتلال الاسرائيلي فـي نظام (اللا)عدالة العنصري.
إذ عندما كانت المناضلة الفلسطينية قيد الاعتقال الإسرائيلي، لم يُسمح لها بحق المتابعة وفق الإجراءات القانونية المرعية فـي كل دول العالم، لذا لم يُوكَّل محامٍ يدافع عنها فـي عام ١٩٦٩عندما أدينت فـي محكمة إسرائيلية نتيجة الغطرسة والتعسف الإسرائيليين خصوصاً بعد عامين من إحتلال تل أبيب للضفة الغربية وقطاع غزَّة بما فـيها القدس الشريف. وكغيرها من مئات الآلاف من السجناء الفلسطينيين، تعرضت رسمية عودة للتعذيب الجسدي والنفسي والاغتصاب مما ترك آثاراً وجروحاً نفسية عميقة لم تمحها كل السنوات الـ٤٥. لكن كل هذا لم يكف حيث أنَّ القاضي درين والإدعاء العام الفـيدرالي أرادا مجدداً معاقبة الضحية لا الجلاد.
وما هو محير للعقل فعلاً إدعاء درين بأنه يقبل بمزاعم عودة حول التعذيب ويعتبرها ذات مصداقية حتى أنه أفصح أن المحكمة «ليست غير متأثرة بظروف احتجازها غير الإنساني فـي الضفة الغربية». فـي الواقع لم تكن المحكمة غير مبالية بمعاناتها والدليل انه من خلال أحكامه الجائرة فضَّل درين وأطال أمد الألم الذي لحق بعودة من قبل الإسرائيليين.
وفـي هذه الأوقات العصيبة الناجمة عن مخاوف كبيرة من إمكانية حدوث هجمات على الاراضي الاميركية لعب ذكر التفجير فـي إسرائيل دوراً رئيسياً فـي إدانة عودة، وخصوصاً أن القاضي تأكد من تجريدها من الحق فـي نفـي تورطها فـي العملية الفدائية التي وقعت فـي إسرائيل كردٍ على مجازرها بحق المدنيين المستمرة حتى اليوم، كان اخرها فـي قطاع غزة.
كما ألغى القاضي درين شهادة الخبير النفسي، والتي وصفها محامي عودة الرئيسي مايكل دويتش بأنها ضرورية للدفاع عنها. عودة تعاني من اضطراب عصبي ونفسي ما بعد الصدمة المسمى «بي تي أس دي» الناجم عن اثار ومخلَّفات التعذيب والترهيب والاعتداء الجنسي الذي عانت منه فـي سجون إسرائيل. وحسب الخبيرة النفسية التي منعت من الإدلاء بشهادتها فـي المحكمة فإن ضحايا الاضطراب النفسي بعد الصدمة يطورون نظام تصفـية تلقائية تساعد الضحايا على تجنب التفكير فـي الصدمات النفسية المقلقة وكوابيسهاالماضية. وهذا المرض معروف ومتفشٍ فـي أوساط الجنود الأميركيين الذين يعودون الى بلادهم من جبهات الحروب حيث يصابون بالصدمات النفسية نتيجة الفظائع والمعارك التي صادفوها فلا يتمكنوا من التأقلم مع المجتمع من جديد مما يؤدي بالعديد منهم إلى الانتحار.
وحسب الدكتورة ماري فابري، عالمة النفس العيادي فـي مركز «كوفلر» فـي مدينة شيكاغو التي أدلت بشهادتها فـي جلسة استماع قبل المحاكمة، فمن الممكن أن عودة ظنَّتْ أنَّ السؤال الذي أُدينت بالكذب بالإجابة عليه نفـياً فـي طلب الجنسية الأميركية، حول ما إذا كانت قد أدينت سابقاً فـي إرتكاب جرائم فـي محكمة قانونية، ربما اقتصر فقط على سجلها العدلي فـي الولايات المتحدة لأن نظام «التنقية» للمعانين من الاضطراب النفسي ما بعد الصدمة حجب عنها التفكير فـي تجربة التعذيب والاغتصاب التي تعرضت لها فـي سجون إسرائيل.
وهكذا من خلال الحظر المتعمَّد للأدلة الدامغة التي أراد الدفاع أن يدخلها على سير المحاكمة من اجل إقناع هيئة المحلفـين، كان القاضي قد حسم القضية لصالح الإدعاء قبل بدء المحاكمة. وبهذا يكون هو الذي حكم على عودة لا هيئة المحلفـين، وبالتالي لعب درين دور القاضي والادعاء والسجَّان أيضاً.
وكأنَّ كل هذا الإجهاض لمفهوم العدالة لم يكن كافـياً، ليكتمل باشكالية فـي التهم الموجهة الى عودة.
رسمية عودة قدمت طلب الحصول على الجنسية قبل ١٠ أعوام وكانت صريحة ولم تخبيء ما حدث لها فـي إسرائيل كما انها لم تحاول أن تخفـي الحكم الزائف بحقها والتعذيب الوحشي الذي تعرضت له فـي تلك السنين المشؤومة.
لكن لماذا وكيف خطر لـ«وزارة الأمن الداخلي» والإدعاء الفـيدرالي العام استهدافها وتدبير قضية بحقها بعد عقد من الزمن تقريباً من حصولها على الجنسية الأميركية، هي الأسئلة التي تثير الدهشة والاستغراب. وقد جرى تحقيق غير دستوري مع زميل عودة الناشط العربي الأميركي ومدير «شبكة العمل العربي الأميركي» فـي شيكاغو حاتم أبو داية وغيره من النشطاء العرب، واستُدعي قبل عامين من قبل مكتب التحقيقات الفـيدرالي «أف بي اي» على خلفـية الأنشطة السياسية التي يقوم بها والمؤيدة لحقوق الشعب الفلسطيني بالحرية والعدالة والإستقلال، والتي يحميها البند الأول فـي الدستور الأميركي. ونحن نعتقد أن لائحة الاتهام الموجهة لعودة هي نتيجة هذا التحقيق غير القانوني.
عودة أبلت بلاءاً حسناً فـي مجتمعها وجاليتها فكانت مواطنة صالحة تعمل على تمكين وتعزيز دور المرأة ومساعدة المهاجرين. رسمية عودة سعت وبكل جهد وإخلاص ان تجعل من شيكاغو مكاناً أفضل للعيش الكريم بعد ان رحلت عن ارضها قسراً وظلماً، فلم تشكِّل خلال كل السنوات التي عاشتها فـي شيكاغو تهديداً لأحد، ولم ترتكب اي مخالفة قانونية فـي هذه البلاد. إنَّ الضغط من قبل «وزارة العدل» (الإدعاء العام) لسوق التهم لها جزافاً، وإن كانت قد ارتكبت مخالفة قانونية «فنية» يمكن شرحها وتبريرها فـي نظام قضائي «رحيم» ينشد العدل للجميع، فهي فـي أحسن الأحوال تبقى تهماً لا تستحق كل هذه المعمعة القضائية التي أضفت ظلماً غير متكافئ مع المخالفة المرتكبة، مما يزيد من معاناة عودة وينكىء جراح الماضي التي لم تندمل بعد، وهي تقارب السبعينات من العمر.
مما يدفع الى الإعتقاد بان هذه المحاكمة بشكلها ومضمونها هي رسالة مدموغة «قضائيا» واضحة إلى العرب الأميركيين والى كل الذين يدعون لوضع نهاية للإحتلال والقمع الإسرائيلي: «نحن نراقبكم».
ونحن بدورنا نعلم أنّ «وزارة العدل» نفسها هذه هي التي أجازت، تحت إدارة جورج دوبليو بوش، ممارسات التعذيب وغضت الطرف عن «مجرمي الياقات البيض» فـي «وول ستريت» الذين كادوا أنْ يتسببوا بإفلاس هذا البلد.
سواء عن قصد أم غيره، يميل الناس إلى ملء المعلومات الخاطئة فـي جميع أنواع الطلبات. لكن الحكومة الفـيدرالية قررت ملاحقة عودة بسبب هويتها وتاريخها وما تمثِّله كإمرأة فلسطينية مناضلة صلبة تقف مع قضايا جاليتها وشعبها.
إتهام عودة وإدانتها إنتقائي بإمتياز، وهو إنذار مباشر لكل العرب الأميركيين فـي هذا البلد، واستكمال للظلم والملاحقة القانونية الانتقائية والتدقيق والتشكيك والتجسس الحكومي الفـيدرالي على مجتمعنا.
ولكن مقابل ذلك كله، يتوجب علينا التمسك بحقوقنا والقيام بواجباتنا، والبقاء هنا والازدهار فـي هذا البلد والإلتزام بالعمل الجاد والمنظم من أجل الحفاظ على كرامتنا وقضايانا وكينونتنا وهويتنا. علينا أن نحذو حذو رسمية عودة ونواصل شعلة النضال من أجل حقوقنا المدنية والدفاع تحت سقف القانون عن قضايانا العادلة.
فبعد القرار التعسفـي وغير المبرر من قبل القاضي بإلغاء سند الكفالة المالية من أجل إيداعها السجن على الفور، ومع اقتراب عناصر الأمن لتكبيل يديها وسوقها خارج المحكمة، فاضت أعين الكثير من أنصارها فـي قاعة المحكمة بالدموع. أمَّا رسمية عودة المكبلة اليدين مشت الى سجنها الجديد مرفوعة الرأس، توزع إبتساماتها المجبولة بالشجاعة، تطمئن الجميع وتدعوهم الى الصبر والصمود: «أنا قوية جداً .. كونوا أقوياء».
تحية لرسمية عودة من سجننا الكبير.
Leave a Reply