نبيل هيثم – «صدى الوطن»
الوضع الحالي في سوريا، بشكل عام، يمكن تقييمه بأنه مستقر، ولكن تبقى بؤر التوتر الرئيسية قائمة في محافظة إدلب ومحيطها.
هكذا أتت خلاصة التقييم الروسي الأحدث للأزمة السورية بعبارات دبلوماسية أطلقتها متحدثة وزارة الخارجية ماريا زاخاروفا قبل أيام.
برغم حرص الدبلوماسية الروسية دوماً على اختيار العبارات الدقيقة، التي تترك الأبواب مفتوحة لإنجاح التسويات، إلا أن الموقف الأخير حمل بين سطوره ما يشي بنفاد صبر الروس إزاء التأخير في تطبيق تفاهمات سوتشي بشأن إدلب، والتي تم التوصل إليها خلال اللقاء بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان في أيلول (سبتمبر) الماضي، والذي جاء ليؤجل العملية العسكرية التي ما زالت تنتظر ساعة الصفر، ضد آخر معاقل الإرهابيين في سوريا.
شراء الوقت
منذ أشهر، يشكو الروس من أن تركيا مصرّة على تكتيك «شراء الوقت»، الذي تحاول من خلاله تركيا الحصول على أعلى المكاسب من تفاهمات سوتشي، سواء في إدلب بشكل خاص، أو في الشمال السوري عموماً، لا سيما بعد الإرباك الذي أحدثته القرارات المتذبذبة التي اتخذها الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن الانسحاب من سوريا، والذي ثبت التراجع عنها، وبالتالي الإبقاء على تواجد محدود للقوات الأميركية حتى أجل غير مسمى.
ومما لا شك فيه أن قرار ترامب، بنسخته الأولى، قد أسال لعاب أردوغان، وولد لديه طموحات معدّلة بزيادة منسوب النفوذ التركي في سوريا، وهو ما تبدّى في استعداداته للدخول في عمل عسكري ضد الوحدات الكردية في الشمال السوري، ما جعله يراوغ بشأن تفاهمات إدلب.
هذا العمل العسكري الذي ارتبط توقيته بانسحاب آخر جندي أميركي من شمال سوريا، باتت خططه اليوم حبراً على ورق، وهو يمثل إشكالية كبيرة لتركيا، ما يجعلها متمسكة أكثر فأكثر بتمكين نفوذها في إدلب، الأمر الذي يعني بعبارات أخرى، السعي لجعل تواجد المجموعات المسلحة التي تدعمها، علناً أم خفاءً، ومن بينها «جبهة النصرة»، أمراً واقعاً.
وليس أقل دلالة على ذلك، أن ما يسمى بـ«هيئة تحرير الشام» (التسمية الجديدة لـ«جبهة النصرة») سرّعت، منذ مطلع العام الحالي، إحكام قبضتها على إدلب، مستعينة بذراعها الإدارية الأبرز، «حكومة الإنقاذ»، وهي تواصل العمل الدؤوب على ما تسمّيه «مشروع التمكين» بكل الوسائل، التي تتجاوز السياق العسكري، لتمتد إلى الشق الإداري والاقتصادي.
لا يمكن تجاهل واقع أن هذه الجهود «النصروية» تتقاطع مع الجهود التركية في محافظة إدلب، خصوصاً أن العارفين بتفاصيل الحياة اليومية في هذه المنطقة، ينقلون مشاهدات كثيرة عن العمل التركي الدؤوب هناك، سواء من خلال فتح المراكز «الإنسانية» والمدارس أو من خلال نشر الدعاة، وهو ما يجعل «جبهة النصرة» (باسمها الملطّف) الحليف الطبيعي لنظام أردوغان، وإن كان ذلك غير معلن بشكل واضح حتى الآن.
بانتظار موقف روسي حازم
من هنا يمكن فهم الريبة الروسية تجاه السلوك التركي الآخذ في المماطلة بتنفيذ تفاهمات سوتشي، وهو ما تمّ التعبير عنه بشكل واضح، بعيداً عن اللهجة الدبلوماسية، في النقاشات التي جرت ضمن جلسات «منتدى فالداي» الشهر الماضي، حيث كان نائب وزير الدفاع الروسي ألكسندر فومين صريحاً في قوله «لقد تعبنا من الأتراك»، مؤكداً على أن «روسيا لن تتردد في التحرك لتصفية الجماعات الإرهابية»، مع تشديده على أن لا إمكانية للمصالحة مع «هؤلاء المجرمين» الذين «لا يمكن العمل معهم».
يمكن بذلك، فهم سبب التحرّك التركي الأخير لاحتواء غضب الروس إزاء التسويف في تطبيق تفاهمات سوتشي، عبر اتخاذ قرار، يبدو شكلياً، بالموافقة على تسيير دوريات مشتركة مع الجانب الروسي في مناطق حفظ التوتر في محافظة إدلب، بالإضافة إلى إعلان وزير الدفاع التركي خلوصي أكار أن بلاده تواصل العمل مع روسيا نحو تأسيس مركز تنسيق مشترك في إدلب.
ويبدو واضحاً أن هذه التحركات لم تكن مُرضية، سواء بالنسبة إلى الجانب السوري أو الجانب الروسي، لا بل أن ثمة من ينظر إليها اليوم باعتبارها محاولة جديدة لكسب الوقت، ما لم تقترن بخطوات أكثر تقدماً من قبيل تنفيذ الالتزامات بسحب السلاح الثقيل وإخراج المجموعات المتطرفة من المنطقة المنزوعة السلاح، وإعادة فتح الطريقين السريعين حلب–دمشق وحلب–اللاذقية.
رد أولي
كان ملفتاً أن الموقف الروسي الحذر تجاه الخطوة التركية لم يصدر علناً، إذ اقتصر على الصمت تجاه إعلان الجانب التركي تسيير الدوريات المنسّقة، وهو تعبير عن عدم رضى تجاه محاولات تركيا تصوير الأمر كاختراق على طريق تنفيذ تفاهمات سوتشي.
لكنّ الرد الأهم، جاء الأربعاء الماضي، حيث لا يمكن وضع الغارات الروسية والسورية على مواقع داخل منطقة «خفض التصعيد» في إدلب سوى بوصفها رداً بالنار على التسويف التركي، ورسالة مفادها أن لصبر روسيا حدود.
وللمرة الأولى منذ أشهر، أعلنت وزارة الدفاع الروسية أن طائراتها استهدفت مستودع أسلحة لـ«هيئة تحرير الشام» في إدلب، موضحة أن ثمة معلومات مؤكدة من عدة قنوات كشفت عن أن الموقع المستهدف يضم عدداً كبيراً من الطائرات المسيّرة التي كان يخطط لاستخدامها في هجمات على قاعدة حميميم الجوية.
لكنّ الملفت في البيان الروسي إشارته إلى أن عملية القصف تمّت بالتنسيق مع تركيا، وهو ما تمّ نفيه من قبل تركيا، بشكل غير رسمي، عبر معلومات نسبتها مواقع أخبارية سورية معارضة إلى ضباط أتراك في نقاط المراقبة في شرق إدلب، لا بل أن أحد المصادر أشار إلى أن «الضربات نفذت من دون علم تركيا».
وبصرف النظر عن دقة الروايتين الروسية (الرسمية) والتركية (غير الرسمية) حول التنسيق بشأن الغارات، إلا أن الرسالة الروسية قد فكّت تشفيراتها في أنقرة، ما يجعل الكرة حالياً في ملعب الأتراك بشأن مصير تفاهمات سوتشي، وربما مسار أستانا بأكمله، لاسيما أن الجمود الميداني قد أثر بدور على السياق السياسي، خاصة في ما يتعلق بالعمل الخاص باللجنة الدستورية، الذي ما زال يراوح مكانه.
حل سياسي أم حسم عسكري
رغم كل ذلك لا يمكن توقع انهيار التفاهمات بسهولة، طالما أن ثمة رغبة مشتركة في التنسيق بين الجانبين التركي والروسي، ومع ذلك فإنّ التحرك العسكري الأخير هو بمثابة تذكير جديد بأن المهل النهائية لتنفيذ تفاهمات سوتشي لم تعد طويلة، وأنه بات من الصعب الانتظار كثيراً حتى تعود إدلب إلى السيطرة السورية، لا سيما أن معظم أراضي المحافظة باتت تحت سيطرة إرهابيي «جبهة النصرة»، التي يؤكد وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف أنها «تنفذ هجمات استفزازية ضد السكان المدنيين، والعسكريين، الروس والسوريين».
ومع ذلك، لا تزال موسكو ملتزمة باتفاقات إدلب وتصر على تنفيذها من قبل «الشركاء» الأتراك، وهو ما عبّر عنه سيرغي لافروف في أحدث تصريحاته، حين أكد استمرار التنسيق مع تركيا لاتخاذ خطوات عملية في هذا السياق، وتأكيد مقابل من قبل المسؤولين الأتراك على ضرورة تمتين التفاهمات مع الجانبين الروسي والإيراني.
على هذا الأساس، يمكن انتظار بعض الوقت حتى تتضح الصورة كاملة، خصوصاً أن الوقت بدأ يضيق أمام كل الأطراف، وبالتالي فإنّ أسابيع قليلة ربما تحسم المصير النهائي لإدلب سواء عن طريق الحل السياسي أو الحسم العسكري.
Leave a Reply