فاطمة الزين هاشم
فـي البداية أودّ أن أعتذرَ لقرّائي الكرام عن انقطاعي فـي مواصلة الكتابة طيلةَ الشهرين
المنصرمين، وذلك لظروف خاصّة، وأتمنّى أن تكونوا قد اشتقتم لي كما اشتقتُ لكم، وكان بودّي أن أوافـيكم بالكتابة حول ما يبعث على انشراحِ الصدر لا على مرارة الأسى، ألا تتّفقون معي بأنّ هذه الصراحة هي نوع من الضريبة التي يقتضيها الصدق؟
إنّ الموضوع الذي جرّني إليه الإحساس بضرورةِ طرح الحقيقة وتبيانها، يتعلّق بظواهر سلبيّة يعاني منها معظم اللبنانيين إن لم يكونوا جميعهم، تبدأ من غياب الدولة ولا تنتهي باستخفاف المسؤولين ومن بيدهم تنفـيذ القوانين التي من المفترض أنّها تطبّق بحقّ كل من تسوّل له نفسه الإفتراء أو التعدّي على خلقِ الله، ويستحوذ على حقوقهم ويتلف أملاكهم دون رحمةٍ أو خوف من الله أو من سطوةِ القانون.
إنّ الواحدَ منّا قد يتغرّب عن وطنه لسنواتٍ عديدة إن لم تستغرق طوال العمر، يقضّيها فـي العمل خارج البلاد كي يشتري له بيتاً يؤويه بعد أن يجتاحه خريف العمر، أو لقضاء فصل الصيف فـي وطنِه إن كان مغترِباً، وبعد الإنتهاء من عمليّة شراء البيت الذي تترتّب عليه كالعادة أقساط يتوجّب على المشتري تسديدها أوّلاً بأوّل، ممّا يضطرّ معه إلى تأجيره ليضمن تسديد تلك الأقساط، فـيأتي المستأجر بابتسامته العريضة التي تصل إلى أذنيه، مُظهِراً الأخلاق المثاليّة والصفات الحسنة إلى أن يستلم عقدَ الإيجار، وبعد ذلك يكشّر عن أنياب الوحوش ويبدأ بالتنمّر والإمتناع عن دفع بدل الإيجار عدا عن الأضرار التي يلحقها بالمسكن، وإذا طولب بإخلاء البيت، لا يخليه إلّا عن طريق محامٍ يكبّدك مصاريف أتعابه إن لم يتواطأ مع المستأجر الذي يكون قد مكث فـي البيت لأكثر من ثلاث سنوات دون أن يسدّد بدلات الإيجار، عدا عن عدم تسديد فواتير الماء والكهرباء وضريبة البلديّة المقرَّرة على المستأجر.
وهنا يلجأ صاحب البيت إلى رفع دعوى للنيابة العامّة بعد أن يتكبّد أجور الخبير المختصّ الذي بدوره لا يدخل البيت إلّا بعد استلامه أجره البالغ ثلثمئة دولار، ثمّ يستبدل المحامي بآخر، حتّى إذا جاء دور النيابة فتستدعي المستأجر، يواصل تنمّره ولا يحضر، ضارباً استدعاء النيابة عرضَ الحائط، لا يهتمّ ولا تهتزّ شعرة منه، لأنّه مسنود من إحدى المحسوبيّات والعصابات (شغّالة) فمن يأكل حقوقاً لغيره لا تصل إليه يدُ القانون، مثلما أنّ من له حقّ على الغير لا يأخذه القانون وإنّما يصل الحقّ بيد العصابة.
من هنا لا أستطيع أن أخفـي سخرّيتي الممزوجة بالمرارة، من هكذا دولة، لا تستطيع أن تجلب نصّاباً وسوقه للعدالة وإرجاع الحقّ إلى أهله، فهل على المواطن أن يكون رئيس عصابة أو ينضوي تحت عباءتها الكالحة، كي يحصل على حقوقه؟ فأين القانون الذي يتمشدق به المسؤولون، ترى من يحاسبكم أيّها المسؤولون وأنتم تبيعون ضمائركم بحفنة من الفلوس الحرام، أم أنّكم منحتم ضميركم إجازة أبديّة؟ إنّ أخلاقكم كنّا نودّ لها أن ترتقي إلى السموّ، لا أن تتدنّى إلى الحضيض، تطلبون من المغتربين العودة إلى البلاد لا حبّاً بهم، وإنّما لنهبهم وتسليبهم حتّى ثيابهم إن استطعتم.
أمّا فـي الجانب الآخر الذي أذهلني، هو استعارة الواقع مشاهدَ من مخيّلة السينما، حيث ليس بمقدوري أن أنسى مشهداً صادفته فـي إحدى المرّات، عندما رحتُ أستفسر عن مكتب أحد المسؤولين، وإذا بالمرشد يطالبني بمبلغ مئة دولار ثمن إرشادي إلى المكان المطلوب، وبعد مضيّ دقائق وصلتُ إليه، وإذا بالشخص نفسه وبهيئته عينها يجلس وراء المكتب!! دُهشتُ حالما رأيته وتسمّرتُ فـي مكاني، فعدتً أدراجي على الفور من حيث أتيت وأنا أشتمه وألعن الزمن الذي وصل فـيه الناس إلى هذه الدرجة من الدناءة وخسّة النفس ووضاعة السلوك.
وفـي مراكز تجمّعات الناس، أو على طريق سيرهم أو فـي أيّ شارع، فلا يكاد يمرّ أحدٌ دون أن يمطر المسؤولين بالشتائم واللعنات والدعَوات، حتّى خلتُ شخصيّاً أنّ هذه السيول من الشتائم واللعنات والدعَوات لو وجّهتْ إلى العدوّ لكادت أن تحرّر جميع الأراضي المحتلّة!!
أوجّه هذه الكلمات الموجوعة إلى كلّ مسؤولٍ فـي لبنان، وإلى كلّ مرتشٍ، لا بهدف التشهير بأحد، وإنّما نأمة عتاب وتأنيب لكي يعودوا إلى صوت العدل والضمير والشعور بالمواطَنة، من أجل أن يحرصوا على إعطاء الناس حقوقها، ويقتصّوا من المجرمين والمعتدين وآكلي حقوق الغير، ليكونوا عبرةً لمن تسوّل له نفسه ارتكاب أيّ فعلٍ يضرّ بالآخرين، لأنّنا يحزّ فـي أنفسنا أن يُقال عن حالة المسؤولين فـي لبناننا العزيز ما قاله الشاعر:
إذا كان ربُّ الدار فـي الدفِّ ناقراً
فشيمةُ أهلِ الدار كلّهمُ الرقصُ
Leave a Reply