كان الجو صيفاً في ظهيرة من أيام يونيو، عندما غادرت السيارة تنهب الاسفلت وتتلوى كالثعبان الهارب بين شوارع القاهرة من شدة القيظ وكأنها أيضا تقاسي من حرارة الطقس الهائلة. وبعد ساعات من الانتظار لم أجد خلالها سيارة أجرة تقلني من حي العباسية الذي كنت أقطن فيه بوسط القاهرة الى حي الزمالك الذي قضيت فيه فترة دراستي الجامعية
فجأة توقفت سيارة ملاكي (خاصة). أشار الي بالصعود. فهمت من ذلك أنه رجل خلوق، ربما أراد أن ينقذني من القيظ ويقلني الى أقرب مكان يناسبني قبلما أن يتجه الى حيث هو ذاهب. سعدت بلفتته وعبرت له عن امتنناني، خاصة بعدما علمت انه ذاهب الى نفس الوجهة.
كانت دهشتي كبيرة. قلت في نفسي: “معقول”؟!
لاحظ السائق ذلك، ولأنني لم أجب في التو حتى أتمم مكارم الاسترسال أو أتجاذب معه أطراف الحديث، التفت الي بنظرة خاطفة.. “ماذا؟”. أيضاً لم أجب على الفور لأني لم أكن أرجو ساعتها في أكثر من أن يقرب اليّ المسافة، كما هو المتعارف عليه وقتها بالقاهرة من شدة الزحام، وأكون ممتنا شاكرا، خاصة بعد ساعات الانتظار تلك في ميدان عبدو باشا، وأنا أبحث عن إحدى سيارات الأجرة كي تقلني، ولم تكن يدي تكف عن الاشارة لإيقاف عربة خالية من الزبائن حتى توقفت سيارته الخاصة تلك وقد سررت لذلك. وعندما جلست بجواره بدر الى ذهني أن بعضهم يعمل على استغلال الوقت، أحيانا فيشتغل سائقا في أوقات فراغه. وبعد فترة من الصمت، قلت له “أين أنت ذاهب في الزمالك”؟، قال “الى كلية الفنون الجميلة”. ازدادت دهشتي فالتفت اليه وسألت “لماذا كلية الفنون الجميلة؟”، هز برأسه يمنة ويسرة، وقال “زوجتي تعد رسالة الماجستير هذه الأيام”.
التفت اليه مرة أخرى بدهشة وقلت” وأنا أيضا.. اذن هي زميلتي”.. التف الي قائلا “ربما..” وسأل “هل أنت خريج قسم التصوير”. قلت “لا لقد تخرجت من قسم هندسة الديكور”. نظر الي مرة أخرى.. “هل أنت قادم من السفر”؟ نظرت اليه مبتسماً “لماذا”؟ قال “شكلك يدل على ذلك”. “كيف”؟.. “لأنك تنظر الى الأشياء باهتمام من حولك وكأنك تتفقدها أو تراها لأول مرة، وهذه عادة المغتربين”.
نظرت اليه وأنا شارد الذهن قليلا خاصة عندما أخبرني بأنه كان في السعودية، وكأنما يريد أن يشير اليّ بأني قادم من احدى دول الخليج مثلا، ودون أن يتلقى مني اجابة، سألته أين كنت بالسعودية؟ قال في الرياض، فقلت “وأنا أيضا”، وكأني كنت استدرج منه اجابة في نفسي، وان كانت من دروب المستحيل.
“ولكن أين كنت تعمل في الرياض؟”، قال “في ثانوية الملك عبدالعزيز”. نظرت الى الرجل رافعا حاجبيّ وبصمت مطبق. فجأة قفز الى ذهني شيء من عجائب الدنيا السبع، وما قد نسمع عن أسرار الكون والأساطير، إلا أني التفت الى الرجل وأشرت اليه باصبعي.. “إذن أنت الأستاذ صافي”. عم الذهول وجه الرجل. نظر الي بحالة من الريبة، ثم نحى سيارته جانبا وسألني “كيف عرفت”؟ سالته مرة أخرى “كيف صحة قلبك الآن؟”، فازداد دهشة، وعلى الرغم من ذلك الا انه أجابني وهو في حالة من الاستسلام رغم علامات الاستفهام التي تبدو عليه.. “الحمد لله قد أجريت عملية قسطرة واشعر الآن بتحسن، ولكن من تكون حضرتك وكيف عرفت عني كل هذه الأشياء؟”. علامات التعجب والاستفهام ظلت مرسومة على وجهه. حكّ ذقنه وتأملني بنوع من الحذر والدهشة متلهفا للاجابة.
ابتسمت ولم اجبه في الحال رغم أنه كان شغوفا. من يكون هذا الرجل بين سبعين مليون مصري (تعداد مصر في تلك الفترة). ولأني أحسست وكأن صبر الرجل قد نفد، فقلت له” أنا أعرفك جيدا ولكنك لا تعرفني أنا عادل بسيوني الشخص الذي انتدبت من قبل وزارة المعارف السعودية لأحل محلك وأكمل العام الدراسي بدلا عنك نظرا لانقطاعك عن العمل بسبب مرضك أتم الله شفاءك”.
أدار الرجل رأسه جيداً واتكأ على ظهر المقعد وهو في حالة لم يدر فيها ماذا يقول، وفجأة أدار المقود واسترسل بالضحك ثم سلم عليّ. وراح يهز برأسه من فترة لأخرى حتى وصلنا والابتسامة لم تفارق وجهينا ولم يقطعها سوى بعض الضحكات.
Leave a Reply