محمد العزير
في غمرة الانشغال العربي الأميركي بالانتخابات التمهيدية المصيرية في حاضرة العرب، ديربورن، وشقيقتها ديربورن هايتس، شهد لبنان –الوطن الأم لغالبية أبناء الجالية في المدينتين وموضع اهتمام الكثيرين من الأشقاء العرب– حدثين بارزين؛ الأول اشتباك على خلفية ثأرية في منطقة خلدة، البوابة الجنوبية لمدينة بيروت، اتخذ على الفور أبعاداً مذهبية كون المشتبكين من خلفيتين مختلفتين، وزاد من تفاقم الموقف نزعات انتقامية أدت إلى سقوط المزيد من القتلى والجرحى وفرضت على البلد كله جو استنفار سياسي وأمني وتوتراً كبيراً. الحدث الثاني كان الذكرى السنوية الأولى لانفجار مرفأ بيروت الكارثي، الذي أسقط أكثر من 200 قتيل وآلاف الجرحى وشرد عشرات آلاف العائلات التي خسرت منازلها وتسبب في إقفال آلاف المحلات التجارية التي تضررت بفعل أكبر تفجير غير نووي في قلب مدينة مأهولة.
منطق الأمور يقتضي في حال كهذه، الكثير من الحكمة والوعي والدراية إزاء بلد يتدهور بسرعة فائقة نحو انهيار لا قعر له. بلد ينتشر فيه وباء «كوفيد» دون ضوابط في ظل غياب شبه كامل للتيار الكهربائي يزيد منه غياب متزايد لكهرباء المولدات الخاصة، بسبب شحّ مادة المازوت في السوق وشحّ أكبر في البنزين، واختفاء السلع الأساسية وحليب الأطفال والدواء، التي تجد طريقها –بعد الاحتكار الكريه من قبل التجار المحميين– إلى مسارب التهريب العلنية التي تحميها جهاراً دوريات أمنية وعسكرية تمنع المواطنين من الاقتراب من قوافلها المتوجهة يومياً إلى الحدود السورية.
لا يختلف لبنانيان على حجم المأساة التي تواجه المقيمين في البلد المنكوب، ولا يسع أي عاقل أن يرى في الطبقة السياسية النافذة والمهيمنة في لبنان أي بصيص أمل في التصرف بمسؤولية أو واقعية لرفع المعاناة عن شعب تدهورت قدرته الشرائية خمسة عشر ضعفاً خلال أشهر قليلة بعد ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي الواحد من 1,500 ليرة إلى أكثر من 20 ألفاً، وأصبحت مستشفياته وجميع المؤسسات الحيوية فيه مهددة بالتوقف الكامل، فيما العاملون المتبقون فيها لم يعودوا قادرين على دفع أجور النقل من وإلى مراكز عملهم.
وكأن كل ذلك لا يكفي للتعقل والنظر في كيفية المساعدة الواجبة والضرورية. المريع أن تنبري أصوات وشخصيات وأقلام ومؤسسات، سراً وجهراً، وعن سابق تصور وتصميم، إلى الدخول على المشهد من بوابة التسعير والتجييش قبل أن تزيد على طنبور الفتنة نغمة شقاق جديدة تمثلت في واقعة بلدة شويّا بقضاء حاصبيا في الجنوب، حيث تصدى بعض السكان لشاحنة مدنية بعد إطلاقها من خراج البلدة صواريخ قديمة الصنع وعديمة الفائدة على الاراضي المحتلة ما أثار مخاوف الأهالي من خطوات ارتجالية قد تودي بالمنطقة إلى آتون عدوان إسرائيلي جديد، قبل أن يعلن طاقم الشاحنة التي تحمل راجمتي صواريخ أنه من «حزب الله»، ليُفتح باب التخوين والتهويل على مصراعيه في هجمات لم توفر حرمةً أو مقاماً أو مرجعية.
إذا كانت الطبقة السياسية الفاسدة في لبنان مستفيدة من أحداث عالية النبرة من هذا النوع، للفت النظر إلى ما هو أبعد من فشلها وعجزها وعقمها، فإن تلك الأحداث تفضح تآمرها مجتمعة على تضييع المسؤوليات الأمنية والسياسية والمالية، بينما هي غير قادرة على إنتاج حكومة حد أدنى تحاول –ولو من باب رفع العتب– اتخاذ بعض القرارات التي تخفف من سرعة التدهور وتستعيد شيئاً من الانتظام إلى السياق الرسمي الذي يبدو حتى الآن، أنه تمت الاستعاضة عنه باجتماعات رئاسية فولوكلورية لمجلس الدفاع الوطني بدون مشاركة مسؤولي الأمن والدفاع، للبحث في أمور ليست من صلاحياته ولا في نطاق اختصاصه، فما هو الحافز لدى من هم خارج البلد للنفخ في جمر أزماته والتطبيل في زجلياته الموبوءة ورفع منسوب الضغائن؟
والأكثر غرابة انغماس الكل –إلا من رحم ربي– في هذه اللعبة العبثية التي تجد الكثير من المياه الآسنة التي تصب في طواحين الانقسام، ولا يقتصر الأمر على المستجدين إعلامياً أو فرسان شاشات الكمبيوتر والهواتف في ميدان التواصل الاجتماعي، بل يتعداه إلى مؤسسات عريقة والى المنابر النبوية والحسينية ومنصات الوعظ التي تتراوح المواقف عليها بين التلميح والتصريح عن مسؤولية «الآخر» في التصعيد والفتنة. قد يكون الآخر حزباً أو طائفة أو مذهباً أو منطقة أو مدينة… المهم إزاحة اللصقة عن ظهر(نا) ووسم الآخر(ين) بها، وكأن الناس التي تعيش في أمان وتنعم بالأساسيات والكماليات من متطلباتها اليومية في دول الاغتراب المستقرة في سباق محموم لنقل مصائب ومثالب الوطن الأم –وفي هذا ينغمس العرب الأميركيون جميعاً ولو بنسب متفاوتة في لعبة لحس المبرد من العراق إلى اليمن إلى سوريا إلى فلسطين– فلكل ليلى، وكل يغني على ليلاه.
وما يثير الأسف أكثر، انجرار وسائل إعلام وشخصيات إعلامية إلى هذا الأتون، وهنا لا استثني هذه الصحيفة التي لا يمكن لعاقل أن يقلل من دورها الريادي في الذود عن حقوق العرب الأميركيين والدفاع عن قضاياهم، أو أن يبخس ناشرها ورئيس تحريرها الزميل الصديق أسامة السبلاني، والذي أثق بسعة صدره وقبوله للرأي المخالف، حقه كأنشط العرب الأميركيين إعلامياً وميدانياً في نصرة قضية العرب الأولى فلسطين وكل القضايا الحيوية المؤثرة في حياة العرب والعرب الأميركيين على السواء. ففي العدد الأخير من الصحيفة وبينما تحمل الصفحة الأولى لـ«صدى الوطن» أخباراً انتخابية مفرحة للجالية في ديربورن وشقيقتها ديربورن هايتس، تفرد صفحة كاملة لمراسلها في بيروت بعنوان «خلدة منعت عبور العدو الإسرائيلي إلى بيروت قبل أربعين عاماً فهل تقطع طريق الجنوب بوجه المقاومة؟»، وتحمل الصفحة التالية مقالاً، لكاتب يعيش بين أميركا وأوروبا منذ ثلاثة عقود، يصب فيه الزيت على نار خلدة مستخدماً سيناريوهات متخيلة وأوصافاً عنصرية بغيضة…
وإذ ليس من الحصافة عادة السجال بين زملاء في صحيفة واحدة، الّا أنه من منطلق «الضرورات تبيح المحظورات»، وبصرف النظر عن الهفوات أو السقطات المهنية في المقالين، من حق القارئ أن يسأل ماذا يفيد العربي الأميركي في كلام كهذا؟…
وما أسجل هذا الانتقاد إلا من منطلق حرصي على هذه الصحيفة وعلى إرثها الباهر.
حبذا لو أننا، نحن القادرون على قول ما نشاء في هذه البلاد بحرية، غير الخائفين على أمننا ورزقنا إذا عبرّنا عن آرائنا في الرئيس الأميركي أو أي مسؤول (هذا لا يشمل بالطبع الذين يسارعون بتهديد مخالفيهم في الرأي بمن هم في الوطن الأم)، أن نرأف بالمقيمين من أهلنا في بلدان المنشأ، وأن نخفف عنهم غلواءنا. نحن نعرف، وهم من أكبرهم إلى أصغرهم يعترفون أن الأمور ليست في يدهم وزمامها ليس داخل البلد… هم بقياداتهم ومراجعهم يرمون المسؤوليات على قوى إقليمية ودولية ومؤامرات ومشاريع توسعية ومعجم كامل من الدسائس والمكائد والاستحقاقات… وكيسينجر طبعاً. فما لنا نسابقهم على الفتنة… ما لنا نشجعهم على الشقاق، وأكثر ما يمكننا فعله إن تدهور الأمن، هو السفر للنقاهة في دولة كاريبية أو أوروبية بدلاً من قضاء الصيفية في لبنان. قديماً قال شاعر العربية أبو الطيب المتنبي:
لا خيل عندك تهديها ولا مال
فليسعد النطق إن لم تسعد الحال.
ليسعد نطقنا، وهذا أرحم بنا وبأهلنا وبأوطاننا الأم.
Leave a Reply