بعد اتفاق بوتين–أردوغان حول إدلب
قبل ثلاث سنوات، أراد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خوض واحدة من أخطر المغامرات مع روسيا، حين دفع بالخلاف التركي–الروسي حول الملف السوري إلى نقطة المواجهة المباشرة، فكانت حادثة إسقاط طائرة «السوخوي» الروسية من قبل الدفاعات الجوية التركية في منطقة الحدود مع سوريا.
لم يكن صعباً حينها تحديد الهدف من تلك المغامرة. يومها كانت الحملة العسكرية الروسية في سوريا قد حققت أولى أهدافها الميدانية، واضعة أردوغان في مواجهة الحقيقة المرة، وهي أن كل طموحاته ومخططاته السورية قد ذهبت أدراج الرياح، ومن هنا بدا أن «السلطان» قد أراد منازلة «القيصر» بعمل على قدر عالٍ من التحدي، عبر محاولة فرض قواعد اشتباك في الميدان السوري، وتذكير الروس بمأساة أفغانستان عن طريق التلويح بإمكانية تجديدها في سوريا.
لم يتأخر الرد الروسي حينها، وقد أتى على مستويين، الأول عسكري تمثل في قطع قنوات الاتصال بين الجيشين الروسي والتركي، وحشد مزيد من القطع الحربية الجوية والبحرية التي أخذت تكثف وتيرة قصفها للجماعات الإرهابية المدعومة من قبل تركيا… والثاني اقتصادي، تمثل في سلسلة قرارات من قبيل وقف استيراد السلع التركية وقطع الرحلات السياحية للروس إلى تركيا، فضلاً عن تعليق العمل في العديد من المشاريع الاستراتيجية بما في ذلك مشروعا المحطة النووية وخط الأنابيب المعروف بـ«تورك ستريم».
صحيح أن الرد الروسي لم يتخذ حينها شكل مواجهة عسكرية، إلا أن ما اتخذه فلاديمير بوتين من قرارات، لاسيما في الجانب الاقتصادي، كان أكثر ايلاماً للأتراك، ما دفع بـ«سلطانهم» بعد وقت قصير إلى النزول عن شجرة الغرور ويبعث برسالة اعتذار لبوتين مشفوعة بخطوات لبناء الثقة، وهو ما قابله الروس بإيجابية بلغت ذروتها حين أبلغوا أردوغان نفسه مسبقاً بتفاصيل خطة الانقلاب التي أعدها الضباط الموالون لغريمه فتح الله غولين، بعدما رصدت وفكت شيفراتها عبر الضباط الروس المتواجدين في سوريا.
على هذا الأساس شكلت حادثة «السوخوي»، من دون أدنى شك، نقطة تحول في الوضعية التركية داخل الصراع السوري، لجهة تحجيم الدور التركي، حتى وإن لم يكن ممكناً انهاؤه، لأسباب عديدة لا تخفى تفاصيلها على أي متابع للوضع في الشمال السوري.
بين «السوخوي» و«إيل–٢٠»
لعل تجربة «السوخوي» في تشرين الثاني (نوفمبر) العام ٢٠١٥، تبدو مفيدة في استشراف تداعيات حادثة «إيل–٢٠» التي تسببت إسرائيل بإسقاطها من قبل الدفاعات الجوية السورية، بعدما اتخذتها المقاتلات الإسرائيلية درعاً لها لتنفيذ واحدة من غاراتها على الأراضي السورية، متسببة بمقتل ١٥ عسكرياً روسياً.
بطبيعة الحال، يمكن في الحالة الإسرائيلية الحديث عن سلسلة من الأهداف المعقدة، قياساً إلى الحالة التركية، وهو ما يجعل رد الفعل الروسي محاطاً حتى الآن بالغموض.
ويبدو واضحاً من خلال توقيت الاستفزاز الإسرائيلي لروسيا، وطريقة إسقاط الطائرة الروسية، أن الأمر ليس مجرد حادث عرضي.
في الواقع، يبدو كل شيء مخططاً، ابتداءاً من توسيع إسرائيل دائرة غاراتها لتشمل محافظة اللاذقية، وهي منطقة عمليات أساسية للجيش الروسي مروراً بالمناورة الجوية التي جعلت من الطائرة الروسية درعاً للمقاتلات الإسرائيلية، وعامل خداع للمضادات الجوية السورية التي قررت التصدي للغارة، فكان أن أصابت الحليف الروسي.
من الناحية النظرية، يمكن لإسرائيل أن تغسل يدها من قتل العسكريين الروس، خصوصاً أن إسقاط «إيل–٢٠» كان بنيران صديقة من الدفاعات الجوية السورية كما أكدت وزارة الدفاع الروسية.
بذلك، وخلافاً للحالة التركية، يمكن لإسرائيل أن تتنصل من المسؤولية المباشرة عن الحادث، أقله من الناحية القانونية، خصوصاً أنها لجأت إلى حيلة أخرى في هذا السياق حين أبلغت الطائرة الروسية بتحركات مقاتلاتها… قبل دقيقة واحدة فقط من الغارة.
ماذا وراء الغارة؟
يمكن في هذا السياق الحديث عن أهداف متعددة، ولكنها مثيرة للدهشة، خصوصاً أن مغامرة كهذه من شأنها أن تقوض سلسلة التفاهمات الروسية–الإسرائيلية في الميدان السوري، والتي اتخذت منحياً تصاعدياً خلال الأشهر الماضية، لاسيما بعد زيارات بنيامين نتنياهو إلى موسكو منذ أيار (مايو) الماضي.
ويبدو واضحاً مما جرى أن ثمة رغبة إسرائيلية في التحرر من القيود التي حددت بشكل نسبي نطاق تحركها في الأجواء السورية، خصوصاً بعدما باتت الدفاعات السورية تملك ما يكفي من الجرأة للتصدي للانتهاكات الإسرائيلية، وهو أمر بلغ ذروته حين تم إسقاط طائرة «أف–١٦» فوق الجولان المحتل.
على هذا الأساس، قد يكون من الأهداف المباشرة لما جرى، إرباك الدفاعات السورية بما يجعلها مترددة في فتح نيرانها باتجاه الطائرات الإسرائيلية تجنباً لأي خطأ محتمل في المستقبل.
علاوة على ذلك، فإن الهدف الأكثر اتساعاً هو محاولة خلق أجواء تشكيك لدى الروس بشأن كفاءة سلاح الدفاع الجوي السوري، وعجز ضباطه عن التعامل مع منظومة قديمة نسبياً مثل «أس ٢٠٠»، لا سيما وأن الحديث لا يزال قائماً بشأن تسليم سوريا منظومة «أس ٣٠٠» الأكثر تطوراً، والتي تثير قلقاً إسرائيلياً بسبب طابعها الاستراتيجي.
قمة بوتين أردوغان
من جهة ثانية، فإن تزامن الحادث الجوي مع لقاء سوتشي الذي جمع فلاديمير بوتين برجب طيب أردوغان، وما خرج عنه من تفاهمات بشأن إدلب، يعكس رغبة إسرائيلية –وبطبيعة الحال غربية– في إفشال التسوية التي اتفقت عليها الجهات الضامنة الثلاث لمسار أستانا.
وما يزيد الشكوك في هذا الإطار، أن وزارة الدفاع الروسية ألمحت إلى مسؤولية غير مباشرة لفرنسا التي أرسلت احدى قطعها البحرية قبالة السواحل السورية، مع العلم بأن فرنسا باتت اليوم في خط المواجهة الأمامية في سوريا نيابة عن الولايات المتحدة.
وما يعزز هذه الفرضية، أن تفاهمات سوتشي أتت لتنزل الثلاثي الغربي (الولايات المتحدة، فرنسا، وبريطانيا) عن شجرة التصعيد، بعد التهديدات الأخيرة بشأن توجيه ضربة جديدة لسوريا على خلفية عملية إدلب تحت شعار «منع استخدام السلاح الكيميائي».
ومعروف أن لقاء سوتشي قد أدى عملياً إلى تنفيس الاحتقان، بعدما خلصت المفاوضات الطويلة إلى اتفاق على بديل عن العملية العسكرية من خلال إنشاء «منطقة منزوعة السلاح» تفصل مناطق سيطرة الفصائل المسلحة المدعومة من قبل تركيا عن مناطق سيطرة الجيش السوري، في منتصف تشرين الأول (أكتوبر)، على أن تتولى الشرطة العسكرية الروسية والجيش التركي مسؤولية الأمن فيها.
وتمتد هذه المنطقة على طول خط التماس بعرض يتراوح بين 15 و20 كيلومتراً، ويفترض أن تنسحب منها التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها «جبهة النصرة»، علاوة على فتح الطريقين الدوليين، حلب–حماة، وحلب–اللاذقية، أمام حركة النقل والعبور بحلول نهاية العام الجاري، بجهد من الجانب التركي.
واذا ما قيست هذه التفاهمات بميزان الربح والخسارة، فإن الرابح الأول مما جرى في سوتشي هو روسيا التي باتت قادرة على أن تحقق هدف إنهاء الحرب السورية بأقل الخسائر العسكرية، طالما أن الحديث سيدور في المرحلة المقبلة عن استهداف محدد للإرهابيين، وبالتالي تكثيف الحصار عليهم تمهيداً لحسم خياراتهم القتالية، بدلاً من عملية شاملة قد تكون مكلفة.
الرد الروسي
من المؤكد أنه حين يتعلق الأمر بتحقيق مكسب لصالح روسيا، فإن الغرب سيستنفر كل أدواته للتشويش على المبادرات أو حتى إجهاضها… وضمن هذا السياق يمكن فهم التحرك الإسرائيلي الأخير.
في العموم، فإن الموقف الروسي بدا حاسماً لجهة اعتبار ما جرى «عدواناً» و«استفزازاً» سيستدعي الرد. صحيح أن لهجة فلاديمير بوتين كانت أقل حدة من لهجة وزير دفاعه سيرغي شويغو، ولكن يمكن افتراض أن الأمر منسق بين الرجلين، فالمسؤول العسكري الأرفع في روسيا تحدث عن رد مؤكد، يتراوح وفق المرجح بين مراجعة التفاهمات العسكرية الروسية–الإسرائيلية، وربما التسريع في تسليم سوريا منظومة «أس ٣٠٠»، وفي كلا الحالتين ستكون حركة إسرائيل في الاجواء السورية محدودة، في حين أن سيد الكرملين قرر الرد سياسياً من خلال تجنب أي رد فعل يتخذ طابع المواجهة، بما يجعل اتفاق إدلب محصناً تجاه محاولات التشويش.
بنود الاتفاق بين روسيا وتركيا بشأن إدلب
تنفس سكان إدلب، الصعداء بعد توصل روسيا وتركيا إلى اتفاق لإقامة منطقة منزوعة السلاح في المحافظة التي تعد آخر معقل للفصائل المسلحة المعارضة للحكومة السورية.
ويتضمن الاتفاق، وفق ما أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سوتشي:
– أولاً: إنشاء منطقة «منزوعة السلاح» في إدلب بحلول 15 تشرين الأول (أكتوبر)، على طول خط التماس بين قوات النظام والفصائل بعرض يتراوح بين 15 و20 كيلومتراً.
– ثانياً: انسحاب المقاتلين المتشددين من تلك المنطقة، بما في ذلك «جبهة النصرة» الإرهابية التي باتت تعرف بـ«هيئة تحرير الشام» بعد إعلان فك ارتباطها عن تنظيم «القاعدة».
– ثالثاً: تمتد هذه المنطقة على طول الحدود الإدارية لإدلب مع محافظات حلب (شمال) وحماة (وسط) واللاذقية (غرب).
– رابعاً: في مهلة أقصاها العاشر من الشهر المقبل، يترتب على «جميع فصائل المعارضة» إخلاء هذه المنطقة من السلاح الثقيل، على أن «تسيطر وحدات من الجيش التركي والشرطة العسكرية الروسية» عليها.
وفيما يشير الاتفاق إلى مرحلتين، تحدثت مصادر دمشق عن مرحلة ثالثة تنص على «دخول مؤسسات الدولة السورية لاستلام مهامها قبل نهاية العام». ويرجح محللون أن تكون البنود التي تم الإعلان عنها في سوتشي جزءاً من مضمون الاتفاق وليس كله.
تسلسل الأحداث في واقعة إسقاط الطائرة الروسية «إيل–20»
تعرضت الطائرة العسكرية الروسية «إيل–20» إلى صاروخ سوري من منظومة «أس ٢٠٠«، أدى إلى إسقاطها بالخطأ ومقتل طاقمها المكون من ١٥ فرداً، وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو حمّل تل أبيب المسؤولية الكاملة عن حادث الاثنين الماضي الذي جاءت تفاصيله وفق التالي:
– الساعة 20:31: انطلقت إيل–20 من قاعدة حميميم الروسية بمحافظة اللاذقية السورية
– الساعة 22:07 اقتربت الطائرة من الساحل السوري الشرقي في طريقها للهبوط
– بين الساعة 22:00 و22:10: أطلقت 4 طائرات «أف 16» إسرائيلية صواريخ على مواقع في اللاذقية
– الساعة 23:00 انقطع الاتصال بالطائرة وعلى متنها ١٥ عسكرياً على مسافة 35 كم من الساحل السوري.
عقب الحادث، أعلنت وزارة الدفاع الروسية أن طائرات «أف 16» الإسرائيلية كانت تهاجم اللاذقية لحظة انقطاع الاتصال بـ«إيل–20». وقد سجلت الرادرات الروسية في تلك اللحظة إطلاق الفرقاطة الفرنسية «أفيرن» صواريخ من المتوسط.
وبحسب موسكو، استخدم الطيارون الإسرائيليون إيل–20 كغطاء، ما جعلها عرضة لنيران الدفاعات الأرضية السورية، حيث أن سطح الطائرة الروسية أمكن رصده بشكل أوضح من «أف–16» لذلك أسقطتها منظومة «أس–200» السورية بالخطأ.
وأكد وزير الدفاع الروسي أنه لا يمكن للإسرائيليين إلا أن يروا «إيل–20»، وهي طائرة استطلاع وتحكم، ومع ذلك نفذوا استفزازهم، علماً أن تل أبيب لم تُعلم قيادة القوات الروسية في سوريا بالعملية عبر الخط الساخن إلا قبل بدء القصف بدقيقة واحدة.
من جانبها، أعربت إسرائيل عن أسفها لمقتل طاقم الطائرة وحملت دمشق وطهران و«حزب الله» كامل المسؤولية، فيما نفى المتحدث باسم الجيش الفرنسي ضلوع بلاده في الحادث.
Leave a Reply