التطورات الإقليمية والدولية والداخلية تحصر نتنتياهو في الزاوية
نبيل هيثم – «صدى الوطن»
إسرائيل اليوم في مأزق غير مسبوق منذ قيامها. للمرة الأولى، إذ يجد قادتها أنفسهم وسط أزمات أفقها مسدود، وعبثاً يحاولون البحث عن مخارج سياسية وعسكرية تمنحهم هامش تحرّك متحرّر نسبياً من المعادلات الجديدة في الشرق الأوسط خصوصاً، والمشهد الدولي بشكل عام.
قبل أسابيع قليلة، انتشى المسؤولون الاسرائيليون بما اعتبروه «اختراقات» تطبيعية مع بعض الدول العربية، والتي قادت رئيس وزرائهم بنيامين نتنياهو إلى سلطنة عُمان، ووزراء آخرين إلى دول خليجية أخرى، كالإمارات وقطر.
لم يتأخر الوقت كثيراً، لتنكشف إسرائيل مجدداً، فإذا كانت الميول التطبيعية عند بعض القادة الخليجيين –وهي ليست جديدة في واقع الحال– قد وفّرت للإسرائيليين فرصة للبهرجة الإعلامية، فإنّ الترجمة العملية على المستوى الاستراتيجي أو حتى التكتيكي لتلك «الاختراقات» سرعان ما بدّدتها الحقائق الجيوسياسية، ابتداءً من الميدان السوري، مروراً بالحدود الجنوبية للبنان، وصولاً إلى الضفة الغربية وقطاع غزة.
تلك الحقائق ذات الأبعاد الاستراتيجية جعلت من الصعب، نظرياً وعملياً، أن يبادر نتنياهو إلى حل أزماته الداخلية –الممتدة بين ملفات الفساد المدان فيها وبين تصدّع ائتلافه الحكومي باستقالة أفيغدور ليبرمان– من بوابة تحقيق الإنجازات الخارجية، كما فعل أسلافه من قبل.
حتى الاحتفاء بالزيارات التطبيعية سرعان ما تبخّر بعدما فرضت التطورات المتصلة بقضية مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، وما تلى ذلك من تصعيد أميركي، خلطاً للأوراق، خصوصاً مع دخول اللاعب الروسي مباشرة في المجال الحيوي الأميركي في الشرق الأوسط، من خلال الانفتاح على السعودية، التي يستعد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لزيارتها، بعدما مرّر رسائل واضحة حول هذا الانفتاح في قمة العشرين في الأرجنتين من خلال تلك المصافحة الحارة مع محمد بن سلمان.
انسداد الآفاق
المشكلة بالنسبة لنتنياهو الآن هي أن الآفاق تبدو مسدودة أمامه، وهو ما يؤكده تسلسل الأحداث منذ أيلول (سبتمبر) الماضي، يوم تسببت إسرائيل في إسقاط الطائرة الروسية «إيل–21»، مروراً بعملية «درع الشمال»، التي تحوّلت إلى مسرحية هزلية، وصولاً إلى استباحة الضفة الغربية، والتي يبدو أن أثمانها على الإسرائيليين ستكون باهظة، وفق ما أظهرته أحدث عمليات المقاومة الفلسطينية في الرد على العدوان.
وبمزيد من التفصيل، يمكن رصد تلك الحقائق التي تجعل إسرائيل حالياً أمام معضلات متعددة المستويات، أفقدتها كل أشكال المناورة.
في سوريا، ما زالت الأجواء مقفلة أمام الطائرات الإسرائيلية، بعد القرار الاستراتيجي الذي اتخذته روسيا بتزويد سوريا منظومة «أس–300»، وربط منظومات الدفاعات الجوية السورية بمراكز الرصد والإنذار السريع التابع للقوات المسلحة الروسية مباشرة. ولعل النتائج باتت واضحة للجميع، فإسرائيل لم تعد تملك أية جرأة في استثارة غضب «الدب الروسي» الذي جلبته إلى كرمها، وجولتا الاختبارات الصاروخية التي قامت لاختبار قدرة الردع الروسية–السورية باءتا بالفشل.
روسيا وإسرائيل
حتى اليوم، فإنّ مشهد العلاقات مع روسيا في الميدان السوري ما زال يلفه الضباب حين يتم النظر إليه من تل أبيب، وهو ما عكسته دراسة حديثة لـ«مركز بيغن–السادات للأبحاث الإستراتيجيّة»، أقرّ بأنّ المصالح الإسرائيلية والروسيّة تتصادم في سوريا بشكلٍ كبيرٍ، لافتةً في الوقت عينه إلى أنّ الموقف الروسيّ الجديد يتحدّى ما أسمته بـ«حملة إسرائيل الدفاعيّة ضدّ إيران».
وبحسب الدراسة فإنّه حتى اللحظة لم تتمكّن روسيا وإسرائيل من نزع فتيل الأزمة بينهما، لا بل تشير إلى أن الأزمة في العلاقات بين موسكو وتل أبيب، التي أعقبت إسقاط الطائرةٍ الروسيّة تفتقِر إلى «استراتيجية خروج»، وأدّت إلى توتّراتٍ أعلى بكثير في الساحة السوريّة.
وتخلص الدراسة إلى أنّ «التطوّر الوحيد الذي يبدو من المرجح أنْ ينزع فتيل الأزمة الإسرائيليّة الروسيّة سيكون انسحابا إيرانياً من سوريا»، ولكنها تقر بأن هذا السيناريو لا يزال بعيد التحقيق.
الجبهة اللبنانية
أما عند الحدود الجنوبية للبنان، فقد بدت عملية «درع الشمال» الهادفة إلى البحث عن أنفاق «حزب الله» مجرّد «همروجة» إعلامية–عسكرية لا تغيّر في الستاتيكو القائم منذ حرب تموز (يوليو) 2006، وهو ما يجعل التناقض واضحاً بين ما يهدد به قادتها السياسيون، وبين الحقائق الميدانية التي يقرّ بها قادتها العسكريون والأمنيون، وهو ما يمكن تلمّسه بوضوح في التخبط الذي تعكسه الصحافة العبرية على صفحاتها، والتي تشكل أحد أوجه المأزق الإسرائيلي الحالي.
حتى الاستغلال الاسرائيلي لقضية الأنفاق بغرض إطلاق حملة علاقات عامة دولية لفرض عقوبات على لبنان، فيبدو سقف توقعات إسرائيل فيه منخفضاً، وهو ما تأكد في ما كشفته صحيفة «هآرتس» من أن الضغط الإسرائيلي السياسي والاقتصادي لم يفلح حتى اليوم في الدوائر الأميركية المختلفة، وذلك من جراء الموقف الأميركي الحازم برفض تطبيق أو فرض أي عقوبات على لبنان في هذه المرحلة.
الأراضي المحتلة
على هذا الأساس، تسعى إسرائيل اليوم إلى أن تكون الضفة الغربية وقطاع غزة مخرجها، ومن هنا يمكن فهم التصعيد الإسرائيلي الأخير ضد الفلسطينيين، والذي يبدو وكأنه ترجمة لما قاله النائب السابق لرئيس الأركان الإسرائيلي الجنرال مائير جولان مؤخراً من أن «مصير إسرائيل سوف يتحدد أكثر في غزة ورام الله والقدس، أكثر منه في طهران ودمشق وبيروت».
ومع ذلك، فإنّ أيّ تصعيد محتمل مع الضفة والقطاع دونه محاذير يدركها الإسرائيليون جيداً، وهو ما دفع نتنياهو إلى الإقرار بأنّ «الجيش الإسرائيلي لا يرغب في الخوض في حرب مع الفلسطينيين… إلا إذا اضطر لذلك».
ومما لا شك فيه أن جولات التصعيد المتتالية ضد قطاع غزة خلال السنوات الماضية، تجعل من أية مغامرة إسرائيلية جديدة محكومة بفشل ذريع، على نحو من شأنه أن يفاقم أزمة بنيامين نتنياهو الداخلية والخارجية، وليس حلّها، في حين أن المؤشرات الأولية للعدوان الإسرائيلي الأخير على الضفة الغربية قد ظهرت سريعاً، حين تبنت «كتائب عز الدين القسام»، الجناح العسكري لحركة «حماس»، عمليتي بركان وعوفرا في الضفة الغربية اللتين قتل فيهما إسرائيليان، كما قتل ثلاثة جنود إسرائيليين في عملية إطلاق نار فدائية قرب رام الله، الخميس الماضي.
المخرج الإسرائيلي
بذلك، تبدو إسرائيل اليوم في وضع محرج، يدفع الكثير من المعلقين إلى القول بأن لا حل أمامها سوى بحرب شاملة، على طريقة «عليّ وعلى أعدائي»، وهو أمر ليس بالسهولة التي يتصوّرها حتى أعتى المتشددين في إسرائيل، خصوصاً إذا ما اقترن ذلك بتصريحات قادة عسكريين بدأوا يشككون على نحو واضح بقدرات الجيش الإسرائيلي، وآخرهم الجنرال السابق إسحق بريك الذي قال إن «وضع الجيش الإسرائيلي في تدهور»، لا بل إنه «منذ العام 1965 لم يشهد الجيش الإسرائيلي مثل هذا التراجع»، أضف إلى ذلك أن المناخ الدولي الحالي –والأميركي تحديداً– لن يسمح بطبيعة الحال بأيّ تصعيد غير محسوب.
وإذا كان خيار الحرب مستبعداً، فإنّ ما لا يمكن إهماله في هذا الإطار، لجوء إسرائيل إلى «العمليات القذرة» في محاولة لتحقيق الإنجازات وقلب الطاولة على أعدائها، دون التورط في حرب مباشرة، سواء من خلال العودة إلى سياسة الاغتيالات، أو حتى تقويض الأوضاع الداخلية في دول معنية، ولاسيما لبنان، حيث تشكل الانقسامات السياسية الحادة، والتموضعات القديمة والمستحدثة أرضاً خصبة لأزمة داخلية لا شك في أن من مصلحة إسرائيل تأجيجها أو إشعالها، لاستغلال نقاط الضعف اللبنانية، ولا سيما المواقف المناهضة لـ«حزب الله»، علها تحقق ما لم يعد من الممكن أن تحققه في المواجهة المباشرة.
Leave a Reply