كمال ذبيان – «صدى الوطن»
في الوقت الذي يتلهّى فيه المسؤولون اللبنانيون بـ«جنس الملائكة»، حول تعديل المرسوم 6433، المتعلق بالحدود البحرية مع العدو الإسرائيلي، فإن الدولة العبرية بدأت التنقيب عن النفط ولزّمت مؤخراً شركة «هاليبرتون» الأميركية، للقيام بهذه المهمة في حقل «كاريدتش» داخل المنطقة الاقتصادية الخالصة، المتنازع عليها بين لبنان وإسرائيل، والتي تدخلت واشنطن لمنح تل أبيب مساحة 360 كلم2 منها مقابل 500 كلم2 للبنان.
الملهاة اللبنانية
مع اكتشاف وجود خزانات نفط هائلة ضمن المياه الإقليمية للعديد من دول شرقي البحر الأبيض المتوسط، مثل فلسطين المحتلة ومصر وقبرص، طلب لبنان –قبل أكثر من عشر سنوات– من شركة نرويجية إجراء عمليات بحث للتأكد من وجود النفط في مياهه الإقليمية، لتُظهر الدراسات سريعاً وجود ثروة هائلة من «الذهب الأسود» تقدّر بمئات المليارات من الدولارات.
وبينما كانت دول الجوار قد بدأت فعلاً في عملية التنقيب، ومنها الكيان الصهيوني، الذي كان السبّاق في استخراج الغاز، ومدّ أنابيب مع قبرص، وتوقيع اتفاقيات تعاون معها، كان لبنان –في ذلك الوقت– مازال يبحث في قانون استخراج النفط، كما في البلوكات التي سيجري تلزيمها لشركات في التنقيب، وهوية تلك الشركات التي سترسو عليها العقود، هذا عدا عن ملفات شائكة أخرى مثل ترسيم الحدود مع الجانب السوري وكذلك العدو الإسرائيلي، وأيضاً مع قبرص التي تتداخل مياهها الإقليمية مع لبنان.
طال النقاش –لا بل الجدل البيزنطي– بين أركان الحكم، وبدأت عملية ملهاة طويلة، حول سبل التنفع من هذه الثروة الطبيعية. إذ بدأ كل مسؤول يفتش عن الشركة التي يمكنه أن يستفيد منها إلى أقصى الحدود عبر العمولات أو الحصص، إضافة إلى بروز العامل الجغرافي–الطائفي في تحديد المناطق التي سيبدأ فيها التنقيب، فاشترط وزير الطاقة آنذاك جبران باسيل، بأن يبدأ البحث أولاً في البلوك رقم 4، القريب من قضاء البترون، فيما فضل رئيس مجلس النواب نبيه برّي، البدء بالبلوك رقم 9 المحاذي لفلسطين المحتلة، تحت شعار الحد من أطماع العدو الإسرائيلي، في الاستيلاء على ثروة لبنان النفطية.
الانحياز الأميركي
في ظل الجدال اللبناني العقيم، وتضييع الوقت، دخلت واشنطن على خط الوساطة بين لبنان وإسرائيل، وحضر أكثر من موفد أميركي إلى بيروت، كان أبرزهم فريدريك هوف وديفيد هيل، إضافة إلى تدخل كل السفراء الأميركيين الذين توالوا على عوكر.
وفي إطار المفاوضات التي استمرت عدة سنوات، رسم الموفد هوف الحدود البحرية، أو ما يعرف باسم «خط هوف» وفق النقطة التي اقترحها لبنان، وأسمى المنطقة المتنازع عليها بين الطرفين بـ«المنطقة الاقتصادية الخالصة»، والتي تبلغ مساحتها 860 كلم2.
وفي العام 2012، قرر هوف أن يحسم النزاع، بتوزيع المنطقة بين الطرفين، فاقترح منح إسرائيل الحق في مساحة 360 كلم2 من «المنطقة الخالصة»، ومن ضمنها حقل «كاريدتش» الغني بالنفط، فأعطى وترك للبنان المتخبط هوف هذه البقعة للكيان الصهيوني، بانحياز واضح، وترك للبنان 500 كلم2.
لكن المفاوض اللبناني حينها، رفض الحلّ الأميركي، الذي كان منحازاً لصالح العدو الإسرائيلي، وعلّق المفاوضات غير المباشرة، التي كانت تجري تحت رعاية الأمم المتحدة في الناقورة، وبحضور ممثلين عسكريين ومدنيين عن لبنان وإسرائيل.
ومنذ ذلك الحين، حاولت الإدارات الأميركية المتعاقبة، إقناع لبنان بالقبول بالحل المقترح، لكنه أصرّ على كامل حقوقه، وهدّدت المقاومة، بأن أي انتهاك إسرائيلي لسيادة لبنان على مياهه سيقابل بردّ قاسٍ، وهذا ما أوقف الأطماع الإسرائيلية المستندة إلى الدعم الأميركي… إلى حين.
حقوق لبنان
خلال مفاوضات الناقورة التي شهدت خمس جولات قبل توقفها، ظهر أن انطلاق لبنان من «النقطة 23» في ترسيم حدوده البحرية، والتي استندت إليها حكومة نجيب ميقاتي لإصدار المرسوم رقم 6433 في آب 2011، ليست هي الصحيحة، وإنما هي «النقطة 29» التي يجب أن ينطلق منها ترسيم الحدود، وهو ما يجعل مساحة «المنطقة الاقتصادية الخالصة» نحو 1430 كلم2 بدلاً من 860 كلم2.
هذا الحق الذي اكتشفته قيادة الجيش عبر فريق من الضباط العاملين في حقل الهندسة والطوبوغرافيا، استدعى إعادة التفاوض حول حق لبنان من «النقطة 29»، وقد تمّ إبلاغ نائب رئيس دائرة الشرق الأوسط وأفريقيا في الخارجية الأميركية، ديفيد شينكر، كموفد أميركي، بالتطور الذي حصل، وقام الرئيس برّي بجهد مع السفير ديفيد هيل، لتحريك المفاوضات من النقطة الجديدة، فتمّ الاتفاق على إطار جديد يستند إلى وثائق ومستندات تعود إلى عشرينيات القرن الماضي، عندما تمّ تقسيم المنطقة بين النفوذ البريطاني والفرنسي في اتفاقية سايكس–بيكو.
إذ تظهر تلك المستندات أن الحدود بين لبنان الذي كان خاضعاً للانتداب الفرنسي، مقابل الانتداب البريطاني في فلسطين، تقع عند صخرة في البحر تسمى «تخيليت»، وعليه فإن خط الحدود البحرية يجب أن يُعتمد انطلاقاً من هذه النقطة وهي «النقطة 29».
وفي أيار (مايو) الماضي، ذهب وفد لبناني برئاسة العميد الركن، بسام ياسين، إلى الناقورة، لعرض الخرائط والوثائق، إلا أن الوفد الإسرائيلي، رفض العودة إلى المفاوضات من جديد وأصر على تثبيت «خط هوف»، الذي يرفض لبنان الاعتراف به. فتوقفت المفاوضات، وفي الوقت نفسه، لم يقم لبنان بتعديل المرسوم 6433، وفق الخرائط الجديدة، وإرساله إلى الأمم المتحدة، إذ مازال يقبع المرسوم في أدراج القصر الجمهوري، مع تبرير دستوري وقانوني بأن الحكومة برئاسة حسان دياب مستقيلة، ويجب أن يصدر المرسوم عن حكومة جديدة.
أما الآن وقد ولدت حكومة ميقاتي الثالثة فهل أصبح بالإمكان إصدار المرسوم المعدّل لحفظ حقوق لبنان في مياهه الإقليمية؟
اعتداء إسرائيلي
مع تعليق المفاوضات، والدعم الأميركي المطلق لإسرائيل، حصل تلزيم شركة «هالبيرتون» لتباشر العمل في تطوير بئر «كاريدتش» الشمالية، والذي يتوقّع أن تحصل منه الدولة العبرية على 33 مليار متر مكعب أو 1.3 تريليون قدم مكعب من الغاز، بالإضافة إلى 31 مليون برميل، من احتياطات السوائل بإجمالي 243 مليون برميل نفط.
هذا الاعتداء الإسرائيلي على مياه لبنان ونفطه، وبغطاء أميركي، فاجأ المسؤولين اللبنانيين الذين أدانوا هذا العمل وتوجّهوا بالشكوى إلى الأمم المتحدة، التي –في الواقع– لم تشكل في يوم من الأيام أي حماية للبنان وحقوقه منذ أن وطأت أرض الأرز بعد أول اجتياح إسرائيلي للجنوب. كما أنها لم تعمل قط على تنفيذ أي من القرارات الدولية التي لولا المقاومة لما تحقق منها شيء.
واليوم، وحدها المقاومة قادرة عملياً على حماية سيادة لبنان ومنع سرقة نفطه، إذ سبق للأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله، أن توعّد دولة الاحتلال بأنه سيقصف المنشآت والمعدات التي ستعمل على استخراج النفط من مياه لبنان الإقليمية، وهذا ما هو متوقّع أن يحصل إذا ما باشر العدو في عملية التنقيب، بينما لاتزال الشركات المتحالفة التي تعاقد معها لبنان وهي «توتال» و«نوفانك» و«أني» تتلكأ في البدء بالتنقيب في البلوك 9» لاسيما شركة «توتال» الفرنسية المعنية مباشرة، وهذا ما جعل الرئيس برّي يطرح السؤال حول دورها التعطيلي، الذي مارسته أيضاً في «البلوك 4».
إن بدء إسرائيل بالتنقيب، ووعدها بتسليم الكميات التي ستستخرج بحلول منتصف العام 2023، سيضع لبنان، أمام مخاطر المواجهة مع دولة الاحتلال التي ستسعى إلى سرقة نفط لبنان بإشراف أميركي وصمت دولي وعجز معهود للأمم المتحدة، لاسيما وأن الداخل اللبناني المنقسم إزاء أزماته السياسية والاقتصادية غير قادر على التحرك بفعالة لمنع الأطماع الإسرائيلي.
لذلك، ترى إسرائيل الوقت مناسباً للبدء بسرقة نفط لبنان الذي يعاني من أزمة محروقات حادة هذه الأيام، كيف لا وقد تأخرت حكوماته المتعاقبة لأكثر من عشر سنوات عن استخراج ثروته المدفونة في مياه البحر الأبيض المتوسط.
إن الصراع مع إسرائيل على النفط والغاز، هو نفسه الصراع على المياه والأرض والجغرافيا والتاريخ.. بل هو صراع وجود وليس صراع حدود، و«ما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلاباً»، وهذا ما تفهمه المقاومة وتمارسه، فهل تسمح لـ«هاليبرتون» بأن تسرح وتمرح في مياه لبنان بلا حسيب ولا رقيب؟
Leave a Reply