للمرّة الأولى في تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي، تخسر تل أبيب الحرب بعد لحظات من اندلاعها. فإذا كانت حرب العام 1973، قد «أفقدت العدو توازنه في ست ساعات»، بحسب العبارة الشهيرة حينها للرئيس المصري أنور السادات، فإنّ الأمر لم يتطلب هذه المرّة سوى بضعة دقائق، هي الحد الفاصل بين اختراق الطائرات الإسرائيلية الأجواء السورية، والحزام الناري للدفاعات الصاروخية التي أفضت إلى إسقاط مقاتلة الـ«أف 16» فوق الأراضي المحتلة.
الملفت للانتباه، أن إسرائيل سارعت إلى الاعتراف بالهزيمة، وإن بعبارات غير مباشرة، حين اقتصر «الرد» المعتاد على شن ضربات استعراضية، في محاولة أخيرة لحفظ ماء الوجه.
تلك الهزيمة تبدّت في سقوط قدرة الردع الاستراتيجية، المتهالكة منذ حرب لبنان في تموز العام 2006، والتي سعت إسرائيل إلى تجديدها، طوال فترة الأزمة السورية، بتنسيق وتناغم مع الولايات المتحدة التي فشلت حتى الآن بدورها في رسم قواعد اشتباكها الخاصة.
روايتان
لعلّ التعبير الأوضح عن هذه الهزيمة يتمثل في أن إسرائيل لم تلجأ هذه المرّة، كما درجت العادة إلى الولايات المتحدة، حليفتها التاريخية، بل إلى روسيا لوقف التصعيد. وفي هذا الإطار، ثمة روايتان، الأولى تقول إنّ بنيامين نتياهو بادر إلى الاتصال بفلاديمير بوتين طلباً لاحتواء الموقف التصعيدي، وهو ما حدث بالفعل حين تلاشت فرص الحرب إلى الصفر في غضون ساعات قليلة؛ والثانية، زعم صاحبها وهو الصحافي الاستقصائي الإسرائيلي البارز رونان بيرغمان أن بنيامين نتنياهو كان قد اتخذ قرار التصعيد الشامل، ولكنّه اصطدم بـ«غضب» فلاديمير بوتين أثناء المحادثة الهاتفية، على خلفية سقوط بعض القذائف الإسرائيلية قرب مراكز لقوات روسية، ما دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى توجيه الأوامر بوقف الهجوم وإلغاء خطة توجيه ضربات قاسية للجيش السوري.
وأيّاً كانت الرواية الحقيقية، فالثابت أن ما جرى يشي بتغييرات كبيرة في قواعد اللعبة، على نحو لا يمكن لأحد إنكاره، فقد وقعت إسرائيل في كمين جوي نصب لها بإحكام شديد من خلال استدراج الرد على «اختراق» مفترض لطائرة استطلاع إيرانية أجواء هضبة الجولان، للوقوع في شباك الدفاعات الجوية السورية.
قرار على أعلى مستوى
بطبيعة الحال، فإنّ تطوّراً عسكرياً بهذه الخطورة لم يكن ليتم من دون وجود قرار سياسي على أعلى مستوى، خصوصاً أن تفعيل الدفاعات الجوية واستخدامها لإسقاط طائرة «أف–16» (وليس مجرّد طائرة استطلاع كما درجت العادة)، يعني من الناحية الاستراتيجية كسراً لخطوط حُمر، تمليها غالباً التفاهمات غير المباشرة –وأحياناً المباشرة– بين اللاعبين الأساسيين.
بهذا المعنى، يمكن افتراض وجود تنسيق روسي–سوري–إيراني، في خطوة تنطوي على نتائج مسبقة باتجاه فرض معادلات جديدة، تمليها المتغيرات التي تشهدها جبهات القتال في سوريا بعد نجاح مسار أستانا بخفض التصعيد في معظم المحافظات السورية، وبالتالي وضع العملية السلمية على خط التسوية السياسية، ضمن المسارات الثلاثة، أي استانا، جنيف وسوتشي.
ومن هذا المنطلق، لا يمكن فصل ما جرى في سماء سوريا عن مجمل التطورات التي تشهدها الساحة السورية منذ مطلع العام الحالي. وفي هذا الإطار، ثمة حاجة إلى تتبع الكثير من التحركات التي تصب بمجملها في سياق المسعى الأميركي لتقويض الانتصارات التي حققها الجيش السوري وحلفاؤه، منذ الانخراط الروسي المباشر في أواخر العام 2015.
أولى تلك التحركات، تتمثل في محاولة الأميركيين دق إسفين بين روسيا وتركيا، ابتداءً من استهداف قاعدتي حميميم وطرطوس بقذائف هاون وطائرات مسيّرة (درونز) انطلاقاً من محافظة إدلب –حيث النفوذ التركي– ووصولاً إلى إسقاط طائرة الـ«سوخوي» في أجواء محافظة حماة، بصاروخ قيل إنه مرّر للمسلحين المتشددين من جانب تركيا.
استفزازات
ويبدو أن المقاربة الروسية لما يجري في الشمال السوري كانت واضحة في سياق كشف المخططات الأميركية، وعلى هذا الأساس كان ملفتاً تأكيد الرئيس فلاديمير بوتين أن تركيا غير مسؤولة عن الهجمات التي استهدفت طرطوس وحميميم، فيما قابلت روسيا حادثة إسقاط الطائرة بعدم الانجرار وراء اتهام تركيا في الحادث، خصوصاً بعدما استقبلت روسيا جثة طيارها بفخر وطني هائل، بعدما أظهرت التحقيقات انه فضّل الموت انتحاراً بقنبلة يدوية على أن يقع في أسر الجماعات الإرهابية، لا بل إن وسائل الإعلام الروسية ضجّت بتقارير تقارن بين السلوك المشين للطيارين الأميركيين في حالات كهذه (ومن بينهم جون ماكين في حرب فيتنام)، والسلوك البطولي للطيارين الروس.
وأمّا التحرّك الثاني، فتمثل في الجهود التي بذلتها الولايات المتحدة لرسم قواعد اشتباك جديدة في سوريا، سواء من خلال تحريك الملف الكيميائي، أو من خلال الغارات الجوية التي استهدفت الجيش السوري في دير الزور، وهو ما تكرّر في الأيام السابقة لإسقاط طائرة الـ«أف –16»، حين أمعنت إسرائيل في استفزازاتها باختراق المجال الجوي السوري، وبطبيعة الحال اللبناني، والتهديدات المتلاحقة التي أطلقتها بشأن حقول النفط والغاز في المياه الإقليمية اللبنانية، وانتهاكها السيادة اللبنانية من خلال الجدار الاسمنتي عند الخط الأزرق.
إعادة ترسيم خطوط الردع
يمكن القول إن التطور الكبير في المواجهة، يأتي كانعكاس لمسار بدأ خلال الأسابيع الأخيرة، حيث برزت عملية إعادة ترسيم خطوط الردع من قبل إسرائيل والولايات المتحدة في ظل المتغيرات في الميدان السوري، لجهة قرب انتهاء الحرب الأهلية واستعادة الدولة السورية قدراتها.
ولا شك في أن إسرائيل والولايات المتحدة قد نظرتا إلى تلك المتغيرات التي منحت سوريا وحلفاءها هامشاً أكبر من الحركة الاستراتيجية والتكتيكية، باعتبارها تحوّلاً كبيراً، لا بد من أن يقترن برسم جديد لخطوط الاشتباك وقواعد الردع.
وفي مقابل ذلك، فإنّ المحور المقابل، رأى أن إسرائيل تمادت في تحركاتها، وبالتالي كان لا بد من عمل ما لكبح عدوانيتها، وهو ما تم بالفعل، حيث لم تؤد الحادثة الجوية إلى إجهاض المحاولات الأميركية والإسرائيلية فحسب، بل فرضت قواعد اشتباك وردع جديدة بعد فشل حملة القصف الإسرائيلية اللاحقة في تغيير المعادلة.
ويجمع الخبراء الاستراتيجيون على أن ما جرى رسالة قوية من سوريا وحلفائها، وسيدخل ضمن معادلات الردع المقبلة، ويعد عنصراً مهماً من محددات السياسات الإسرائيلية في سوريا.
كما أن ثمة اتفاقاً بين الخبراء الاستراتيجيين على أن ما جرى تطوّر نوعي في الحرب، باتت معها الولايات المتحدة أمام مفترق طرق، فإمّا أن تردع إسرائيل عن الاستمرار في سلوكها العدواني، وإمّا أن تكمل مخططاتها، فتتدحرج الأمور نحو مواجهة شاملة لن تكون في صالح الأميركيين والإسرائيليين، وهو ما تعكسه بطبيعة الحال ردود الأفعال اللاحقة على إسقاط الـ«أف 16».
ضوء أخضر روسي
وبالرغم من أن روسيا فضلت النأي بالنفس ظاهرياً عن الاشتباك الحاصل، إلا أن كافة المؤشرات تدل، من الناحية العملية، على أنها صاحبة الضوء الأخضر والمستفيد الأول مما حدث، فالاتصالات التي تلت إسقاط الطائرة الإسرائيلية كرّست موسكو اللاعب الأبرز، وضابط الإيقاع الوحيد، للتصعيد أو التهدئة في سوريا، علاوة على ذلك، فإنّ التوقعات تشي إلى أن ثمار الحادث الجوي سيُقطف سياسياً من قبل الكرملين، حين يضطر رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى الضغط على الولايات المتحدة لوقف عمليات التشويش على المفاوضات السياسية التي ترعاها روسيا لحل الأزمة السورية، أملاً في تحقيق مكسب وحيد، وهو أن تحقق التسوية السياسية ما أفسدته المخططات التخريبية التي قوّضت «الأمن الإسرائيلي» و«قدرة الردع» إلى أدنى مستوياتها منذ حرب العام 1973.
Leave a Reply