لا تزال أشباح «أيلول الأسود» تحوم في سماء الشرق الأوسط، ذلك التعبير الذي استخدمته الكثير من المصادر الدبلوماسية، لا سيما في روسيا، مترابطة بالكثير من الاستحقاقات المرتبطة بشهر أيلول، الذي يفتتح الربع الأخير من كل عام، يتوقع كثيرون أن تتكشف في نهاياته ملامح التحالفات والاصطفافات الإقليمية الجديدة.
ومع أنّ تعبير «أيلول الأسود» –الذي يستحضر تلك الأحداث المؤثرة على المنطقة العربية التي دارت بين الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية في العام 1970– قد ارتبط هذا العام بمغامرة مسعود البرزاني، الذي قرر المضي نحو الاستفتاء على استقلال إقليم كردستان العراق، إلا أن الأيام القليلة الماضية أظهرت أن ثمة استحقاقات لا تقل خطورة على امتداد الشرق الأوسط، من طهران إلى بيروت، وعلى نطاق أوسع، من موسكو إلى واشنطن.
المغامرة البرزانية
استفتاء كردستان لا يمثل في الواقع سوى المؤشر على احتمالات التصعيد أو التسوية. صحيح أن تلك المغامرة البرزانية، تشكل اليوم، محور الاتصالات السياسية والدبلوماسية، إلا أن مفاعيلها تبقى مرتبطة بالنوايا الكبرى، تجاه كافة الملفات الإقليمية.
وعلى هذا الأساس، فإنّ ثمة إجماعاً بين المراقبين، على أن الدوائر السياسية في الشرق الأوسط، كما في روسيا والغرب، تتعامل مع الاستفتاء الكردي باعتباره سلاحاً ذا حدّين، أو ربما عبوة ناسفة، لا يمكن أن تنفجر إلا إذا تم تركيب صاعقها في سوريا، وجهاز توقيتها في الولايات المتحدة أو إسرائيل.
ولهذا السبب، فإن التعامل مع الاستحقاق الكردي يجري ضمن مستويين متناقضين، الأول يذهب نحو الاستخفاف بمفاعيل الاستفتاء، باعتباره مجرّد ورقة ضغط كردية على الحكومة المركزية في بغداد، لتنحصر بالتالي تداعياته على اللعبة الداخلية في العراق؛ وأمّا الثاني، فيبدو مستوى أكثر تطرفاً، إذ ينظر إلى مغامرة البرزاني، باعتبارها قراراً اتخذ في أروقة البيت الأبيض لتفجير الأوضاع في الشرق الأوسط.
هذان المستويان، يبقى كل منهما احتمالاً منطقياً، وأمراً واقعاً قائماً بحد ذاته، لكنّ ترجيح أحدهما على الآخر، يبقى مرتبطاً بالخيارات الأشمل، والمقصود بذلك، رغبة الأطراف المعنية بالصراعات العابرة للحدود في الشرق الأوسط، وتحديداً الولايات المتحدة، بالتصعيد أو التسوية.
على هذا الأساس، يمكن سحب الاستحقاق الكردي من التداول، عبر إعادته الى حجمه الطبيعي، في حال حسمت إدارة دونالد ترامب خيارها بإنجاح التفاهمات السورية مع الجانب الروسي. وعلى النقيض، فإنّ الاستفتاء الكردي قد يستخدم كعنصر مفجّر للشرق الأوسط برمّته، في حال اختارت الولايات المتحدة المضي نحو التصعيد، ونسف كل التسويات الموضعية، التي تمّت خلال الأشهر الماضية، والتي تهدف للوصول إلى تسوية شاملة.
ةترامب: الشيء ونقيضه!
حتى الآن، لا يمكن توقع الخيارات الأميركية بشكل جازم، وذلك يعود بشكل أساسي إلى أن التعقيدات الداخلية في الولايات المتحدة تجعل من الصعب تحديد ما يريده ترامب فعلاً، خصوصاً أن الأخير، وفي محطات كثيرة، خلال السنة الأولى من ولايته الرئاسية، قد أظهر الشيء ونقيضه في آن واحد، وهذا السلوك، يعود بالدرجة الأولى إلى الصراعات الداخلية التي تميّز العهد الترامبي، بين خيار البراغماتية، التي يرغب في انتهاجها، وبين خيار الحرب المسيطر على أذهان الساسة والجنرالات في المنظومة السياسية العسكرية الحاكمة في الولايات المتحدة.
بطبيعة الحال، فإنّ قرار الحرب والسلم الأميركي يبقى مرتبطاً بعوامل تتجاوز الشرق الأوسط، فدخول كوريا الشمالية، على سبيل المثال، النادي النووي، بحكم الأمر الواقع، بعد امتلاكها القنبلة الهيدروجينية، وعجز الولايات المتحدة عن التعامل مع هذا الواقع –حسبما يتضح بعيداً عن ردود الأفعال الكلامية–يجعلها أكثر استعداداً للتصعيد في أماكن أخرى، بعيدة عن شبه الجزيرة الكورية للحفاظ على هيبتها السياسية والعسكرية.
لذلك، لم يكن مستغرباً أن يأتي الرد الأميركي على القنبلة الهيدروجينية من بوابة الشرق الأوسط، حيث يبدو، كما لو أن ترامب قد انقلب على الكثير من التفاهمات التكتيكية والاستراتيجية، وهو ما عكسته التصريحات والخطابات التي ألقاها، خلال مشاركته الأولى في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك.
تقويض الملف النووي
كلمتان؛ مفتاحيتان؛ يمكن الركون إليهما لتحديد طبيعة التحركات الأميركية المتوقعة في المرحلة المقبلة: إيران واللاجئون.
على هذا الأساس استغل دونالد ترامب اول حضور له في الأمم المتحدة، كرئيس للولايات المتحدة، لتأمين الغطاء الدولي للضغوط التي يسعى لفرضها على إيران، بهدف تقويض الاتفاق النووي. ومع أنّ الرئيس الأميركي ينظر إلى هدم «اتفاق فيينا» باعتباره هدفاً جوهرياً، يمكن من خلاله أن يحصّن رئاسته، من غير استقطاب صقور المنظومة الأميركية الحاكمة من جهة، واللوبي اليهودي داخل الولايات المتحدة من جهة ثانية، فإنّ المضي قدماً في خيار خطير كهذا لن يكون سهلاً، فالتسوية النووية ليست مجرّد اتفاق ثنائي بين الولايات المتحدة وإيران، بل هي اتفاق متعدد الأطراف، يشمل الجمهورية الإسلامية والدول الخمس الكبرى الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، مضافاً إليها ألمانيا، القوة الاقتصادية الرئيسية في أوروبا.
وكان واضحاً من خلال المناقشات العلنية، وفي أروقة مبنى الأمم المتحدة في نيويورك، أن خيار الانسحاب من الاتفاق النووي، أو تقويضه، لا يحظى بموافقة، حتى من جانب أقرب حلفاء الولايات المتحدة، الشركاء في التسوية النووية، وذلك لأسباب عدّة، تتراوح بين السياسي والاقتصادي… والخشية من انفجار إقليمي غير مضبوط.
انطلاقاً مما سبق، لا يبدو هامش المناورة كبيراً بالنسبة إلى ترامب، على المسرح الدولي، لاتخاذ قرار بخطورة هدم الاتفاق النووي، ولكن مجرّد بذل محاولات من قبل ترامب في هذا الاتجاه، يضيف من رصيده لدى مجموعات الضغط الداخلية، التي تحاصره بملف التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية التي أتت به إلى البيت الأبيض.
ملف اللاجئين
وأما النقطة الثانية، المتمثلة في طرح معادلة توطين عشرة لاجئين في دول الجوار السوري كبديل عن توطين لاجئ في الولايات المتحدة، فربما يعكس رغبة جدية من قبل ترامب لإطالة أمد النزاع السوري، على النحو الذي يخدم المصالح الأميركية والإسرائيلية، وبالتالي الانقلاب على تفاهمات هامبورغ، التي من شأنها أن تمهّد لتسوية سياسية، تضمن عودة الاستقرار والهدوء إلى سوريا، وبالتالي عودة كافة اللاجئين السوريين إلى ديارهم.
هذا الموقف المثير للاستهجان بشأن اللاجئين، ترافق مع استفزاز جديد في الميدان، تلى كلام ترامب مباشرة، تمثل في الهجوم المفاجئ الذي شنه إرهابيو «جبهة النصرة» على مناطق تشرف عليها الشرطة العسكرية الروسية، المكلفة بتطبيق اتفاقيات خفض التصعيد، في محافظة حماه السورية، والذي كان الهدف منه خطف هؤلاء العسكريين، ودفع الوضع في سوريا إلى نقطة تصعيد غير محسوبة.
والملفت للانتباه، في هذا السياق، أن رئيس الإدارة العامة للعمليات في هيئة الأركان الروسية الجنرال سيرغي رودسكوي أكد صراحة أن هجوم الإرهابيين ضد الشرطة العسكرية الروسية في حماه لم يكن محض صدفة، لا بل أشار إلى أن خبراء أميركيين أشرفوا على إعداد الهجوم وتدريب المسلحين المشاركين فيه.
بطبيعة الحال، لا يمكن فصل هجوم «جبهة النصرة»، الذي من شأنه أن يخرق الخطوط الحُمر، بمعزل عن الانزعاج الأميركي الواضح، من التقدم الميداني الذي حققه الجيش السوري، مدعوماً بالقوات الروسية، في البادية السورية، وفكه الحصار عن مدينة دير الزور، فيما يعد التطوّر الأكثر أهمية في سوريا، منذ بدء الصراع قبل ست سنوات.
إسرائيل وطبول الحرب
ولكن الأهم في الموضوع هو أن محاولة كسر الخطوط الحُمر مع الجانب الروسي، يترافق مع تصعيد مكثّف من قبل الإسرائيليين، الذين يتحضرون لدق طبول الحرب، دونما التجرؤ على إطلاقها، ضد «حزب الله»، خصوصاً في ظل تركيز المسؤولين الإسرائيليين السياسيين والعسكريين على خطورة ما يصفونه بـ”الممر الشيعي»، الذي فرضته الأوضاع الميدانية من العراق، مروراً بسوريا، ووصولاً إلى لبنان، بفضل الانجازات التي تحققت خلال الأشهر الماضية، والتي كرّست سيطرة واضحة لمحور المقاومة على طول هذا الخط أو الممر، الممتد من طهران إلى بيروت.
هذا «الكابوس» الذي عبّرت عنه إسرائيل في أكثر من مناسبة، خلال الأشهرالماضية، هو الذي قاد رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو إلى القيام بزيارة عاجلة لروسيا، التقى خلالها الرئيس فلاديمير بوتين لتحذيره من تداعيات اقتراب «حزب الله» والحرس الثوري الإيراني من الجولان، عبر الأراضي السورية، وهو تحذيرقوبل بفتور من قبل سيّد الكرملين، الذي سكب على رأس ضيفه دلواً من الماء المثلج، حين قال إن روسيا هي من تحدد أولوياتها، وليست إسرائيل، وهو كلام لم يعتد الإسرائيليون على سماعه، حين يتعلق الأمر بتحركاتهم على الساحة الخارجية.
ولا شك في أن ذهاب نتنياهو إلى سوتشي للقاء بوتين، وإثارة الهواجس على مسمعه، شكلت إقراراً بأن المعادلة الشرق أوسطية باتت محكومة باللاعب الأكثر قوة، والمتمثل بروسيا، ولذلك فإنّ عودة رئيس الحكومة الإسرائيلية إلى تل أبيب بخفّي حنين يمثل في الواقع محفّزاً للضغط على الولايات المتحدة، من أجل» ترويض» الدور الروسي، سواء من خلال محاولة تغيير قواعد اللعبة في سوريا، وهو ما عكسه كلام ترامب عن اللاجئين من جهة، والمغامرة الخطيرة في إدلب من جهة أخرى، أو للحصول على ضوء أخضر من الحليف الأميركي للتصعيد العسكري مع «حزب الله». هذا ما يفسر بطبيعة الحال المناورات العسكرية الأخيرة عند الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة، والحديث المتصاعد عن احتمالات الحرب على الجبهة الشمالية.
الثمن الباهظ
ولكن خياراً كهذا لن يكون نزهة، برغم الحديث الوهمي عن تنامي قوة الردع الإسرائيلية، فالقيادة العسكرية في إسرائيل تدرك أن حرباً جديدة على لبنان لن تكون نزهة، وأنّ قدرات «حزب الله» في العام 2017، تتجاوز بأضعاف كثيرة، قدراته في العام 2016، براً وجواً وبحراً، وبالتالي فإنّ أية مغامرة عسكرية لن تكون من دون ثمن باهظ. ولعل هذا ما يدفع القادة العسكريين في إسرائيل الى تكرار مقولة «إننا حريصون على استمرار الهدوء على الجبهة الشمالية».
تلك المقولة تختزل المأزق الاسرائيلي الحالي، الذي لا يمكن لتل أبيب أن تتجاوزه، إلا بسيناريوهين غير مضموني النتائج: إما تخريب التفاهمات القائمة في سوريا، سواء مباشرة أو عبر الحليف الأميركي، وإما المضي قدماً نحو تصعيد عسكري يلامس لبنان، ولا يطاله، أي على جبهة الجولان.
Leave a Reply