مثيرة للانتباه، السلوكيات الإسرائيلية الأخيرة التي تقترب في أعراضها من الجنون الهستيري. لا يكاد يمضي يوم، إلا ويصدر موقف هنا، أو تسريب هناك، حول سيناريوهات الحرب على ما تسمّيه إسرائيل «الجبهة الشمالية»، تارة تحت ذريعة تنامي القدرات العسكرية للمقاومة في لبنان، وطوراً تحت هاجس القلق غير المخفي من التحوّلات الميدانية في سوريا.
هذا التصعيد اتخذ مساراً تصاعدياً منذ اللقاء الأول الذي جمع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس الأميركي دونالد ترامب في واشنطن. تدرّجت السلوكيات العدائية الإسرائيلية من نعي سياسي لحل الدولتين، أي لمسار أوسلو، وتجديد التهديدات العسكرية تجاه قطاع غزة، ثم راحت تتناول سيناريوهات حرب محتملة، وغير تقليدية، ضد «حزب الله»، إلى أن بلغت أوجها، مع تكثيف الغارات الجوية في الداخل السوري، وتهديد نادر بتوجيه ضربة قاضية للدفاعات الجوية السورية، وصولاً إلى التلويح بتدمير مؤسسات الدولة اللبنانية ومرافقها الحيوية.
مخاوف من انتصار سوريا
لعلّ كل ذلك يرتبط بمخاوف إسرائيل من التحولات الجيوسياسية، بعدما بدأت تتضح ملامح الحل المستقبلي في سوريا، بعد النجاحات الكبرى التي حققها الجيش السوري وحلفاؤه في الميدان العسكري، وتكثيف الجهود المتعددة المستويات للتسوية السياسية بين أستانا وجنيف، واقتراب الحديث عن معركة الرقة، التي ستشكل محطة تحول كبرى في الصراع السوري، بعد التحوّل العظيم الذي أفرزته معركة حلب في كانون الأول (ديسمبر) الماضي.
وفي الواقع، لا يمكن إيجاد تفسير آخر للتصعيد الإسرائيلي من دون النظر إلى ما يجري في الداخل السوري. ولعلّ أحد التحركات العسكرية الإسرائيلية في سوريا، خلال الأسبوع الماضي، يؤكد ذلك، والمقصود بذلك الغارة الجوية، التي نفذتها الطائرات الإسرائيلية على مواقع عسكرية سورية قرب تدمر.
ولعلّ دلالة هذه الغارة تبدو كبيرة. فلطالما اقتصرت الغارات الإسرائيلية في الداخل السوري على أهداف محددة، مرتبطة بشكل خاص، بما تزعم إسرائيل أنه عمليات تهريب أسلحة لـ«حزب الله»، سواء على طريق بيروت–دمشق، أو في منطقتي القنيطرة المحاذية للجولان المحتلة، والقلمون الغربي المحاذي للحدود مع لبنان. وأما الغارة الجوية المشار إليها، فجاءت هذه المرّة في العمق، وتحديداً في تدمر، حيث تنشط وحدات من القوات الخاصة الروسية، إلى جانب الجيش السوري وعدد من الفصائل الحليفة له، في معارك مستمرة ضد تنظيم «داعش».
الموقف الروسي
وبعيداً عن التفسيرات التقليدية، وأبرزها الحديث عن دعم إسرائيلي واضح للمجموعات التكفيرية، فإن التفسير الوحيد للغارة الجوية قرب تدمر يشي بأن ثمة رسالة تريد إسرائيل توجيهها للروس تحديداً، لا سيما أن هذا التطور العسكري أعقب زيارة قام بها نتنياهو نفسه إلى موسكو، لتحذير الروس من «خطورة» تحوّل سوريا إلى قاعدة لإيران، على حد قوله، وهو ما قوبل برد فعل روسي فاتر، عاد معه رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى فلسطين المحتلة بخفّي حنين، بعدما شعر بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد سكب على رأسه ماءً مثلجاً، كذاك الذي تتفجر فيه ينابيع روسيا، في موسم ذوبان الثلوج.
والجدير بالذكر في هذا السياق، أن البرودة الروسية تجاه التحذيرات الإسرائيلية، أتت مناقضة للتصريحات الدافئة التي سبق أن أطلقها الكثير من المسؤولين الروس، وفي مقدّمتهم وزير الخارجية سيرغي لافروف، تجاه إيران و«حزب الله»، لا سيما حين ذكّر الأميركيين بأن هذين الطرفين هما من يحاربان الإرهاب في سوريا، علماً بأن هذا التصريح الملفت للانتباه من قبل رئيس الدبلوماسية الروسية، أتى بعد أيام قليلة على لقاء نتنياهو–ترامب، والذي اكتسب بعده رئيس الوزراء الإسرائيلي جرعة منشطات من سيّد البيت الأبيض، فراح يهدد بالثبور وعظائم الأمور، ليتحوّل بذلك إلى رئيس حكومة حرب، ومايسترو لجوقة بروباغندا، يشترك فيها كبار مسؤوليه السياسيين والعسكريين والأمنيين.
هستيريا إسرائيلية
على هذا الأساس، جاءت تهديدات نتنياهو حين قال إن الهدف الذي قصفته الطائرات الإسرائيلية هو شحنة أسلحة «متطورة» كانت في طريقها إلى «حزب الله»، مؤكداً أن الغارات الجوية ستستمر، برغم التحذيرات التي تلقتها إسرائيل من أكثر من جهة، ومن ثم رئيس هيئة الأركان في الجيش الإسرائيلي الجنرال غادي أيزنكوت الذي أعاد التذكير بأن «حزب الله» يعتبر المهدد الرئيسي لـ«وجود إسرائيل»، ووزير الخارجية أفيغدور ليبرمان الذي أطلق موقفاً هستيرياً بعد إسقاط سلاح الجو السوري طائرة إسرائيلية، قائلاً إنه «في المرة المقبلة التي يستخدم فيها السوريون أنظمة الدفاع الجوي الخاصة بهم ضد طائراتنا، سندمرها بدون تردد».
وكان الجيش السوري قد أعلن في 17 اذار (مارس) الجاري عن تصديه لطائرات إسرائيلية باسقاط طائرة حربية للعدو وإصابة أخرى، إلا أن إسرائيل نفت ذلك مؤكدة أنها أسقطت الصواريخ التي اعترضت طائراتها.
يعكس كل ذلك، أن إسرائيل لم تعد تمتلك من خيار لمواجهة المتغيرات الجيوسياسية في سوريا، إلا عبر دفع المنطقة إلى حافة الجحيم، وهي في واقع الأمر لا تملك سوى خيار من اثنين.
السيناريو الأول، يتمثل في التصعيد ضد لبنان، وذلك من بوابة «الحدود البحرية»، أما الثاني فيتمثل بالهجوم على سوريا.
ردع «حزب الله»
كان ملفتاً للانتباه، في خضم هذه الأجواء المتوترة، ما كشفت عنه صحيفة «يديعوت أحرونوت» بشأن فشل جهود الوساطة الأميركية والأممية بين تل أبيب وبيروت، والتي استمرت لسنوات، في حل الخلافات إزاء مسألة الحدود البحرية، وأن القيادة السياسية في إسرائيل، تتجه، في ضوء ذلك، نحو طرح مشروع قانون بشأن الحدود الاقتصادية البحرية مع لبنان.
وفي هذا السياق، ذكرت صحيفة «معاريف» أن تل أبيب طلبت من واشنطن، الضغط على بيروت، لسحب المناقصة الخاصة بالتنقيب عن النفط والغاز في مناطق نفطية في البحر المتوسط، تعتبرها حكومة إسرائيل محل خلاف، مقابل توقف إسرائيل عن الاستمرار بدفع مشروع القانون الذي قد يؤجج الوضع.
ولكن إسرائيل تعلم جيداً، لا بل تقر، بأن أي تصعيد عسكري ضد لبنان لن يكون نزهة، بدليل اعترافها بتنامي قدرات «حزب الله» خلال السنوات العشر التي تلت عدوان تموز العام 2006، ولعلّ دوائرها العسكرية والأمنية ما زالت تدرس بعناية كل عبارة وردت على لسان الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله في خطابه الشهير في ذكرى القادة الشهداء في أواسط شباط (فبراير) الماضي.
وانطلاقاً من المتغيرات التي طرأت على معادلة الردع في لبنان، فإن إسرائيل لا تملك من خيار واقعي سوى التصعيد في سوريا، ولا يمكن بالتالي فهم خلفيات الغارات الإسرائيلية الأخيرة إلا ضمن هذا السياق.
ويبدو واضحاً أن إسرائيل راغبة في التصعيد ضد سوريا، والدليل على ذلك اعترافها النادر بشن غارات في الداخل السوري، على خلاف ما كانت عليه الحال خلال السنوات الاربع الماضية، حين كانت لا تؤكد ولا تنفي حدوث مثل هذه العمليات العسكرية.
دعم روسي
ولكن إسرائيل تبدو في المقابل راغبة في جس نبض الأميركيين والروس تجاه تصعيد من هذا القبيل، خصوصاً أن روسيا بالذات باتت اللاعب الأقوى في سوريا. ولذلك كان اختيار الهدف بدقة، حين هاجمت الطائرات الحربية الإسرائيلية تدمر.
ومما لا شك فيه أن رد الفعل الروسي المقابل لم يكن مطمئناً للإسرائيليين، وهو ما تبدّى سياسياً وعسكرياً.
وعلى المستوى السياسي، كان ملفتاً استدعاء الخارجية الروسية للسفير الإسرائيلي لدى موسكو، للحصول على توضيحات بشأن الغارة، ومن ثم تصريح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، بعبارات دبلوماسية تنطوي على تحذير صارم، الذي أكد فيه أن روسيا ستحكم على السلوك الإسرائيلي في سوريا «من خلال الأفعال وليس الأقوال».
وعلى المستوى العسكري، ثمة من يعتقد، في صفوف الخبراء العسكريين، بأن إسقاط الطائرة الإسرائيلية في الأجواء السورية، قد جاء عملياً من قبل الروس، عبر ما توفره للجيش السوري من دعم بالأسلحة ورصد استخباراتي. وبالتالي، فإن هذا التطوّر، الذي أثار جنون إسرائيل، مثل في الحقيقة رسالة من موسكو إلى تل أبيب، وإن كانت صواريخ الدفاع الجوي قد أطلقت من جانب السوريين.
وبالنسبة إلى روسيا، فإن الحرب بين سوريا وإسرائيل خيار مرفوض كلياً. وبالرغم من أن الاتصالات بين بوتين ونتنياهو مستمرة، حتى أن العديد من الخبراء يصفون العلاقة الروسية – الإسرائيلية بـ«الودية»، إلا أن الطرفين لا يخفيان الخلافات القائمة بينهما بشأن المسألة السورية، والمرتبطة خصوصاً بـ«حزب الله»، بعدما تبيّن للجانب الروسي، عقب العمليات العسكرية الأخيرة في حلب وما بعدها، أن وحدات «حزب الله» هي التي تتمتع بقدرة قتالية عالية، مقارنة بجميع التشكيلات الأخرى، وبالتالي فإن أي مغامرة لضرب الحزب في سوريا تعرقل بلوغ الهدف الرئيسي الذي يحمل لواءه الروس، وهو الانتصار على الإرهاب، ما يعني، بعبارات أخرى، أن أي عمل عسكري عدائي من جانب إسرائيل، سواء في سوريا، أو في لبنان، سينظر إليه من الناحية العملية على أنه إعلان حرب ضد السياسات الروسية في الشرق الأوسط عموماً.
Leave a Reply