خلال الفترة بين الميلاد ورأس السنة الجديدة، خُضت فيما وصفته صحيفة «جيروزاليم بوست» بـ«حرب تويتر»، وزعمت الصحيفة أن تلك الحرب «أثارت الدهشة على ضفتي المحيط الأطلسي». وكان السبب في بدء ذلك السجال المحموم الذي تحدثت عنه الصحيفة هو ردّي على تغريدة لمقدمة برامج الطهي التلفزيونية الأميركية الشهيرة «راشيل راي»، وصفت فيها المقبلات وورق العنب المحشي والحمص والشمندر والقرنبيط والجوز والفلفل الأحمر والتبولة.. بـ«الإسرائيلية».
ولم أكن أنتوي خوض تلك «الحرب»، لكني شعرت بغضب شديد عندما رأيت تغريدة «راي»، وغردت قائلاً: «يا للحسرة.. هذه إبادة ثقافية، فتلك ليست أطعمة إسرائيلية، وإنما عربية (لبنانية وفلسطينية وسورية وأردنية)، وفي البداية سرق الإسرائيليون الأرض، ومارسوا تطهيراً عرقياً بحق العرب، والآن يحاولون سرقة طعامهم وثقافتهم، ويزعمون أنها ملكهم أيضاً.. يا للعار!».
ولابد من الإشارة إلى أن تلك ليست المرة الأولى التي تتورط فيها «راي» في إنكار الثقافة العربية الفلسطينية. ففي عام 2008، ظهرت في إعلان تلفزيوني لـ«دانكن دونتس»، بينما كانت تضع «الكوفية الفلسطينية»، وبعد سلسلة من الهجمات من قبل من يعانون من «الإسلاموفوبيا»، الذين وصفوا «وشاحها» بأنه رمز «للمتطرفين الفلسطينيين»، ألغت «دانكن دونتس» الإعلان المذكور.
وكانت الردود على تغريدتي فورية، وتضمنت هجوماً من كتاب أميركيين وإسرائيليين، ومن رئيس إحدى المنظمات اليهودية الأميركية. وكانت معظم الانتقادات سخيفة تماماً، وقد انطوى بعضها على تهديدات، مثل طردي من الحزب «الديمقراطي»، بينما كان البعض الآخر مجرد «إهانات وقحة»، مثل قولهم: «متعصب ومعادٍ للسامية». واللافت أنها في مجملها لم تصب في صلب الموضوع من الأساس.
وكان هدف الردود السخيفة تلك، إما التقليل من شأن المسألة برمتها، أي «مَن اخترع طبق الحمص»، أو كانت تعبيراً عن تبادلات ثقافية مشوشة أو مشاركات لأمور غير ذات صلة مباشرة. وقد أشرت إلى أنني لا أعتبر أن عمل «البيتزا» أو «المعكرونة» في الولايات المتحدة «إبادة ثقافية»، ما لم تكن الولايات المتحدة قد احتلت إيطاليا ثم زعمت أنهما من الأطعمة «الأميركية». ورددت على تغريدة «بلهاء» من قبل «بريت ستيفنز»، الكاتب في صحيفة «نيويورك تايمز»، بالقول إنني لو استخدمت «خدمة الرسائل النصية»، التي تم ابتكارها في إسرائيل، فإنني لن أكون بذلك مشاركاً في عملية «سرقة ثقافية»، ما لم أستخدمها، ومن ثم أنسبها لنفسي، وأبدأ في الإشارة إليها باعتبارها «ابتكاراً لبنانياً».
وبالطبع، أدرك أن عدداً كبيراً من الإسرائيليين جاؤوا من دول عربية، وأدرك أن هؤلاء أحضروا معهم أطباقاً من اليمن والعراق والمغرب ومصر وغيرها، لكن ذلك لا يجعل من الأطباق اليمنية أو العراقية أو المغربية أو المصرية «إسرائيلية»، كما أنه لا يمكن وصف أكلات «البيتزا» أو «السوشي» أو «الأرز المحمر» بأنها أكلات «أميركية»، لأن الإيطاليين والمكسيكيين واليابانيين والصينيين هم من أحضروها إلى الولايات المتحدة الأميركية.
ومع قيام إسرائيل، تم طرد مئات الآلاف من الفلسطينيين ومُنعوا من العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم. وصادرت إسرائيل بيوتهم وشركاتهم وأراضيهم ودمرت 385 قرية فلسطينية، وسعت إلى محو التاريخ الفلسطيني بصورة منهجية تامة، وغيرت أسماء الأماكن وأسماء الشوارع والمعالم التاريخية كلها تقريباً، كما زرعت «غابات» فوق أطلال القرى المدمرة، ونبشت بقايا التاريخ وقبور الأسلاف.
لذا، فإن تلك «الحرب عبر تويتر» لا تتعلق بإنكار وجود إسرائيل، وإنما بإنكار إسرائيل لوجود فلسطين، وهي عملية لا تزال مستمرة اليوم داخل إسرائيل، وبطريقة شديدة العدوانية في الضفة الغربية المحتلة. وعلى سبيل المثال، صادرت سلطات الاحتلال الإسرائيلي منطقة جبل «أبوغنيم»، وهو تلة خضراء في شمال مدينة بيت لحم، ومُنع سكان المدينة من دخولها، وأصبحت المنطقة الآن موقعاً لمستوطنة إسرائيلية يقطنها 20 ألف مستوطن يهودي قدموا من أنحاء العالم، إلى ما يصفه الاحتلال بـ«القدس الكبرى».
ومما يقلقني هو أوجه الشبه بين تجربة السكان الأميركيين الأصليين وما ترتكبه إسرائيل من جرائم بحق الشعب الفلسطيني وثقافته، فقد سلبت أراضيهم وتاريخهم وحقوقهم الوطنية، والآن يدعي المغتصبون الأحقية في ثقافتهم أيضاً وتراثهم المادي. وبحسب المادة الثامنة من إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلية، فإن ما يحدث هناك في فلسطين لا يمكن أن يوصف بوصف آخر سوى بأنه «إبادة».
ولو أن الإسرائيليين والفلسطينيين تعايشوا في سلام، وهو ما دعوا من أجله دائماً، فلابد أن يرتكز ذلك على الاحترام المتبادل، وهو ما يعني ضرورة وضع حد لعملية الإلغاء الممنهج التي يتعرض لها الواقع الفلسطيني بمختلف أوجهه، ولابد من الاعتراف بحقوق الفلسطينيين وردها إليهم، كما يجب إظهار الاحترام لكافة الثقافات التي تعيش الآن على الأراضي المقدسة.
رئيس المعهد العربي الأميركي في واشنطن
Leave a Reply