د. عبد الإله الصائغ
ثمة أمتان متضادتان، تتخذ كل منهما تسميات وسمات تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والناس. ولا يذهب بنا الفكر بعيداً حيث القومية أو العنصر وهو ما لم نكرس له مقالتنا.
الأمة الأولى تتذرع بالعقل فتفسر الحسي والمجرد وفق منطق العقل، والجماعة الأخرى تتذرع بالعاطفة فتفسر الحسي والمجرد وفق منطق اللامنطق!
ثمة أمّتان دائماً: الأولى منحازة للخير كما هو، والأخرى منحازة لمحاربة الخير كلما بدا! أمة مع السلام وقبول الآخر وأمة مع الحرب وإلغاء الآخر! فما العمل؟
جاء في القرآن الكريم «وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ»، ومن قبل قالت الديانات السماوية والوضعية الإصلاحية مثل هذا أو قريباً منه. وقال فلاديمير لينين «دائما ثمة أمتان ونقيضان»!
الحرب بين جبهة العقل وجبهة التخلف قديمة قدم الوعي البشري. فقدّمت جبهة العقل تضحيات مفجعة وتكبّدت خسائر موجعة كالتشهير والتعزير والتخوين والتجهيل والإلحاد. منذ أفلاطون (347 ق.م) الذي اتخذ من خرائب قصر أكاديموس معهداً يلقي فيه على مريديه دروساً في الفلسفة والرياضيات، وقف ضد مشروعه العقلي الإمبراطور الروماني جستنيان فأغلق معهده زاعماً أن تعاليم أفلاطون تدعو إلى إنكار الرب ومناكفة القيم الاجتماعية. لكن أفلاطون وضع افكاره في «جمهورية أفلاطون» ولم يخرج عن وصايا استاذه سقراط (399 ق.م) مبتكر تحليل الظاهرة من خلال الأسئلة والحوار وفق سلطة العقل.
في المقابل، قرر أرسطو (322 ق.م) –وهو من مريدي أفلاطون– الإمعان في تدريس المنطق واللغويات والمسرح والموسيقى. إذن المنهج النوري فعل والمنهج القبوري ردة فعل.
ثمة دائماً أمّتان… ثمة دائماً مجابهة بين جبهتين ضدين. ولم تتوقف المجابهة بين المنطق العقلي والمنظور اللاعقلي بين التجديد والتقليد، بين السرب والتغريد خارج السرب، لم تتوقف المجابهة في أي وقت من العصور وصولاً إلى السلطات العربسلامية: الاموية والعباسية والاندلسية والفاطمية والعثمانية والملكية والجمهورية، لكن المفارقة هي أن أوار المعركة بين العقل والوهم سجل سعيراً كارثياً غب 2003 فظهرت أمة من الادعياء الزاعمين انهم سفراء الرب وسدنة الدين وشن هؤلاء المدججون بالسلطة والمال والنصوص المحرَّفة حرباً مهلكة على الناس المتطلعين إلى مجتمع متنور متحضر يُدَوْزِن حياته على إيقاع العقل. ومن هنا نقترب من أطروحة الأستاذ مصطفى العمري التي أودعها في كتابه «إشكالية الدين في أنمطة المجتمع قراءات نقدية»، والكتاب وفق قراءتي ومرافقتي لمؤلفه ومفاتشاتي معه في إشكاليات اختلفنا فيها مرة وأتلفنا عليها أخرى، يُعَد حزمة مواقف اتخذها العمري ضد مظاهر الخرافة والتخلف مهما كانت اللبوس التي تتمظهر بها. مواقف جريئة في وسط متطامن متضامن مع قناعات كونكريتية مسلحة، وقد نشط العمري في نشر مقالاته المثيرة للجدل مستثمراً هامش الحرية في بعض الصحف! فشن عليه المتشددون المنغلقون حملات عنيفة من خلال المنابر والمجالس وبعض المؤسسات والصحف المحسوبة بهتاناً على الدين والأخلاق متهمين إيّاه بتهم هشة المبنى ركيكة المعنى لا تنم عن قدرات فكرية ولو بسيطة في مقابلة الحجة بالحجة، ودفع البرهان بالبرهان.
كتاب العمري يطمح إلى فك الاشتباك بين الدين السماوي والدولة الأرضية بين رجالات الدين وفضاءات المجتمع ولكن بأسلوب تلقائي ودم بارد. قارن (ص 74 أحاول أن اخرجك أيها القارىء من قراءة النص إلى التفكير والتأمل والإمعان في هذه الاسئلة لتكون أنت المنتج فيها وأنا القارىء) ثم قارن أيضاً (ص50 هل بمقدور الخطاب الإسلامي ونصوصه المركزية التماشي مع لغة النهضة العالمية وهل يمكن تسويق الدين مع كل هذا الكم من النصوص الرثة الداعية إلى القتل والرق والاستعباد).
الكتاب يمتلك طموحاً إنسانياً يتموضع في أن الإنسان هو الإنسان قبل أن نميزه أو نؤذيه بمسوغات خارجة عن إرادته، بل أن الهم المركزي لدى المؤلف هو تربية الناس على قبول الآخر والتعايش معه، قارن (ص48: لا اشكال في تطبيق تلك المفاهيم وإن كنت يهودياً أو مسلماً أو مسيحياً أو حتى غير منتم إلى دين المهم أن تكون إنساناً ولا تتخيل أنك الحق الذي يجب ان يسود الكون) وقد يستعين المؤلف وهو يجوس مساحات من التاريخ الضدي بمقولات رواد التنوير لتعزيز فكرته –وهو سلوك أكاديمي متبع في صناعة الكتب الفكرية لا غبار عليه– (ص51 يقول محمد اراكون: مسكين ابن رشد ليس له حظ في عالمه العربي الإسلامي، الفقهاء المالكيون يدينونه في عصره ويبصقون على وجهه في المسجد الكبير أمام الناس عندما كان ذاهباً للصلاة مع ابنه. وفقهاء عصرنا يفعلون الشيء نفسه وتمتقع وجوههم ما إن يذكر اسمه. في الوقت نفسه يتلقف الغربيون كلامه ومؤلفاته ويترجمونها ويبنون عليها نهضتهم! ثم يسألونك بعدها لماذا تاخر المسلمون وتقدم غيرهم).
يقول إن خطباً كبيراً لحق بالمسلمين وأوقف مسيرتهم وجعل منهم أضحوكة لزمن تفترس فيه غلمان الغرب العلوم والتكنولوجيا، بينما هم يفترس احدهم الآخر… الاعتقاد بأن الخطاب الذي كان في عمق الجزيرة العربية يجب أن يستمر إلى هذا العصر، خطاب ميت يدل على ان المتصدين للدين غير مدركين لمعنى الرسالة السماوية».
هموم المؤلف (هنا سيّان فتح لام المؤلف أو كسرها) هي هموم صعبة المنال في وسط تكاثرت فيه المصالح واختلطت الأوراق واشتجرت مواقف الداعين والأدعياء. ويمكن ملاحظات عدد من عنوانات فصول الكتاب لمعرفة المزيد من مركزية هموم الكتاب من نحو «تكهنات حول الوضع العربي القادم، ونحو عرب في أميركا، ونحو العقل اليقظ الذي يصارع من أجل البقاء، ونحو أسباب تأخر المسلمين وتقدم الغرب، ونحو غاية الله ورغبة الناس، ونحو الإلحاد ظاهرة أم اعتقاد، ونحو أسباب مخاوف المفكر العربي، ونحو قراءة في سفر السيدة عائشة… إلخ.
وكثيرا ما ناقش العمري مقولات العقل والنقل في الموروث الإسلامي مع ان جماعة النقل تتدرع بالقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف والسيرة بعامة وفي معرض الكتاب الكريم فأغلبهم لا يفقه مقولة الامام علي بن ابي طالب عليه السلام «القرآن حمّال أوجه»، ودون معرفة حقيقية لعلوم القرآن للتمييز بين المكي والمدني والمحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ واسباب النزول… فضلاً عن اتباع علم الجرح والتعديل في قبول الحديث الشريف أو رده.
المؤلف توسع في محمولات الدين فلم يقصر جهده على الدين الإسلامي بل تداول الجهد الأديان الأخرى ومحاولات الأدعياء في استثمار اللاحصانة لدى الجمهور للعمل على «أنمطته»، بل أيضاً ناقش المؤلف الأنمطة العلمانية ولم يرتض المصطلح مالم يكن التصرف وفق مقاسه، وقد خاض مناقشات حادة جادة مع عدد من العلمانيين!
واذا كان الإسلام السياسي يكفر المفكرين المغايرين فإن العلمانية السياسية تخوِّن مناكفيها وتجهلهم وهذه محنة الفكر المستقل ذي المنهج العقلي في مجتمع لم يتثقف كما ينبغي بثقافة قبول الآخر والتعايش مع المخالفين والمغايرين. وكم تمنى المؤلف أن تكون المؤسسات الدينية نوادي ثقافية تنشر المعرفة وترجح سلطة العقل (ص85: المراكز الإسلامية متناثرة في مدن وأزقة الشوارع ولكن فعلها الأصلي غير موجود. المسجد أو الجامع الذي اسس لكي يقرب الناس ويوحد كلمتهم ويجمع شملهم صار مكانا للتكريه والتحريض على البغض والعداء بين الطائفة الواحدة والمجتمع الواحد).
ليس ثمة قطيعة بين العمري والدين أو رجالات الدين بالمطلق، فللمؤلف العمري علاقات وطيدة جدا برجال دين معروفين من نحو آية الله السيد الدكتور طالب الرفاعي والمفكر السعودي الإسلامي إبراهيم البليهي، غير أن موقف مصطفى العمري من الاطروحة الشيرازية معروف، فهو يكافحها في كتاباته ومحاضراته دون هوادة وقد اتكأ على استذكارات صديقه السيد الرفاعي في «امالي السيد طالب الرفاعي، ليصل العمري إلى القول: «يمتلك الخط الشيرازي اليوم العديد من الفضائيات والمراكز في جميع انحاء العالم ومدارس تنفث الغباء والغلو والسب والطعن، مدارس تعتمد التطبير والتطيين والمشي على النار والنباح وابتداعات سنوية غير مسبوقة والإشكال الأعظم أن المدرسة التقليدية الشيعية صامتة أمام هذا التشويه والخرف ولا اجد أخطر على الإنسان من أن يسري في ذهنه وباء التخلف والانغلاق واستعداء الآخر وقد ركز الخط الشيرازي في منهجه على تفشي ظواهر تحيل الإنسان إلى متخلف ومنغلق ومبغض للآخر المختلف ولا ارى اخطر على الشيعة والتشيع من الخط الشيرازي الذي حاول ان يرتدي لباس الإسلام وبألوان شيعية ثم بدأ يفتك بالعقل الشيعي ويرتد به إلى ما قبل الجاهلية).
وبعد–
كتاب إشكالية الدين في أنمطة المجتمع قراءات نقدية قبالة الأمية الثقافية الدينية التي رانت على المجتمعات العربسلامية بمنهج عقلي انتهجه العمري ينأى به عن الشتم والقذف، فالغاية هي كسب الآخر أو تنويره وليس استفزازه وتنفيره ومن ثم خسارته. فما أحوج الشارع الديني إلى قراءات نقدية جريئة ولذلك نحن ننتظر من الكتاب مخاضات فكرية جريئة في زمن إغراق الفكر الشرقي بكتب الخرافة والعرافة والجنس والسحر، بكتب تغسل أدمغة الشباب وتحبب إليهم عسكرة الشارع بسلطات أدعياء الدين وحيتان السياسة وديناصورات الخرافة، للوصول إلى المجتمع المؤمن بالحياة المدنية القائمة على الدساتير الوضعية التي تساوي بين الناس باختلاف ألسنتهم وألوانهم، وتقدس حق المرأة في مشاطرة الرجل الحقوقَ والواجبات.
Leave a Reply