الصراع العربي–الصهيوني لم يعد هو قضية العرب الأولى، ولا همّهم القومي المشترك، بل إنّ القضية الفلسطينية برمّتها قد تهمّشت عربياً ودولياً، فلا أحد يضغط على إسرائيل الآن لتحقيق المطالبة الدولية بإقامة دولة فلسطينية مستقلّة ذات سيادة على حدود العام 1967، عاصمتها القدس، ولا طبعاً بإزالة المستوطنات أو حتّى بوقف الاستيطان، ولا بحلٍّ عادلٍ لقضية اللاجئين، وهذه هي القضايا التي دار التفاوض في السنوات الماضية بشأنها، بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
أيضاً، وجدت إسرائيل في البيت الأبيض نصيراً لها هو الأفضل بالمقارنة مع كلّ الرؤساء الأميركيين الذين سبقوا دونالد ترامب في حكم الولايات المتحدة. فترامب اعترف بالقدس عاصمةً لإسرائيل وفرض عقوبات على السلطة الفلسطينية، بل على المؤسّسات الدولية الإنسانية التي ترعى شؤون اللاجئين الفلسطينيين، وهو ينسجم تماماً في مواقفه مع سياسات نتنياهو على مختلف الأصعدة، بما فيها الموقف من الاتفاق الدولي مع إيران بشأن ملفّها النووي.
إسرائيل ليست لها مصلحة أيضاً في إنهاء الأزمة الدموية السورية بتسوية تحافظ على وحدة الكيان السوري، وتعيد بناء الدولة السورية على أسسٍ سليمة، فالمصلحة الإسرائيلية هي في استمرار هذه الأزمة وآثارها السلبية على كلّ المشرق العربي، وفي انتشار جماعات الإرهاب باسم الإسلام، وفي التشجيع على الفتن الطائفية والمذهبية بعموم المنطقة.
إسرائيل تعمل منذ سنوات، خاصّةً منذ وصول نتنياهو للحكم في العام 2009، على أن تكون أولويّة الصراعات بالمنطقة هي مع خصومها لا معها، بحيث تتحقّق عدّة أهداف إسرائيلية مهمّة جداً لكل الإستراتيجية والمصالح الصهيونية في المنطقة والعالم. فالمراهنة الإسرائيلية هي في تهميش الملف الفلسطيني، وعلى كسب الوقت لمزيدٍ من الاستيطان في القدس والضفّة الغربية والجولان، وعلى تفجير صراعاتٍ عربية داخلية، بأسماء وحجج مختلفة، تؤدّي إلى تفتيت الكيانات العربية الراهنة وتدمير الجيوش العربية الكبرى، وعلى إقامة تطبيع سياسي وأمني واقتصادي مع الدول العربية والإسلامية. فتلك الإستراتيجية ستجعل من إسرائيل قوةً إقليمية ودولية كبرى في عصرٍ بدأ يتّسم بالتعدّدية القطبية، بحيث تكون إسرائيل عندها قادرةً على فرض «شرق أوسط جديد» يسمح لها بتحقيق الهيمنة الأمنية والسياسية والاقتصادية على كلّ المنطقة، بعدما تضع الحروب الإقليمية والأهلية أوزارها.
الأرض العربية تشهد الآن اليوم تحوّلاتٍ سياسية شبيهة بما حدث منذ مائة عام تقريباً بعد ما أفرزته الحرب العالمية الأولى من نتائج، في ظلّ ما كان يُعرف تاريخياً بمصطلحات بدأت مع تعبير «المسألة الشرقية» وانتهت بتعبير «وراثة الرجل التركي المريض».
فقد حصلت في تلك الفترة مراهناتٌ عربية على دعم الأوروبيين لحقّ العرب المشروع في الاستقلال وفي التوحّد بدولة عربية واحدة. وسُمّيت تلك المرحلة بـ«الثورة العربية الكبرى»، وهي ثورة قام بها الشريف حسين حاكم مكّة عام 1916 ضدّ الدولة العثمانية بدعمٍ من بريطانيا، خلال الحرب العالمية الأولى. لكن هذه المراهنة العربية على «الوعود البريطانية» لم تنفّذ طبعاً. بل ما حصل هو تنفيذ بريطاني لوعدٍ أعطاه آرثر بلفور باسم الحكومة البريطانية (نوفمبر 1917) للحركة الصهيونية بمساعدتها على إنشاء «وطن قومي يهودي» في فلسطين. فما بدأ كثورةٍ عربية مشروعة في أهدافها انتهى إلى ممارساتٍ وظّفتها القوى الأوروبية لصالحها، كما استفادت الحركة الصهيونية منها فنشأت «دولة إسرائيل» ولم تنشأ الدولة العربية الواحدة!
«المنظّمة الصهيونية العالمية» احتفلت العام الماضي بمرور 120 سنة على وجودها. ففي عام 1897، انعقد المؤتمر الأول (برئاسة ثيودور هيرتسل) في مدينة بال بسويسرا، وضمّ مجموعة من كفاءات يهودية منتشرة في العالم، وحينها دعا هيرتسل المشاركين إلى وضع خطط إستراتيجية ومرحلية تؤدّي إلى وجود دولة إسرائيل بعد 50 عاماً! وقد تحقّق ذلك فعلاً بعد 50 عاماً أي عام 1947. ثمّ كان النصف الثاني من القرن الماضي مسخّراً من أجل تكريس الاعتراف العالمي والعربي (والفلسطيني تحديداً) بهذا الكيان!
إنّ الفتن الداخلية العربية الجارية الآن في أكثر من مكان، لا يمكن عزلها عن الصراع العربي–الصهيوني على مدار مائة عام. إذ لم يكن ممكناً قبل قرنٍ من الزمن تنفيذ «وعد بلفور» بإنشاء دولة إسرائيل دون تقطيع الجسم العربي والأرض العربية، حيث تزامن الوعد البريطاني–الصهيوني مع الاتفاق البريطاني–الفرنسي المعروف باسم «سايكس–بيكو» والذي أوجد كياناتٍ عربية متصارعة على الحدود، وضامنة للمصالح الغربية، ومسهّلة للنكبة الكبرى في فلسطين. فلا فصل إطلاقاً بين معارك التحرّر الوطني من المستعمر الغربي التي جرت في البلاد العربية وبين الصراع العربي–الصهيوني. ولا فصل أيضاً بين أيِّ سعي لاتّحاد أو تكامل عربي، وبين تأثيرات ذلك على الصراع العربي–الصهيوني.
وما يحدث اليوم على الأرض العربية هو تتويجٌ للحروب التي خاضتها الحركة الصهيونية على مدار المائة سنة الماضية. فالاعتراف الدولي بإسرائيل، ثمّ الاعتراف المصري–الأردني–الفلسطيني بها، بعد معاهدات «كامب ديفيد» و«أوسلو» و«وادي عربة»، ثمّ «تطبيع» بعض الحكومات العربية لعلاقاتها مع إسرائيل، كلّها كانت غير كافية لتثبيت «شرعية» الوجود الإسرائيلي في فلسطين، وللتهويد المنشود للقدس ومعظم الضفة الغربية. فهذه «الشرعية» تتطلّب قيام دويلاتٍ أخرى في محيط «إسرائيل» على أسس دينية أيضاً، كما هي الآن مقولة «إسرائيل دولة لليهود». فما قاله «نتنياهو» بأنّ (المشكلة مع الفلسطينيين هي ليست حول الأرض بل حول الاعتراف بيهودية الدولة الإسرائيلية) يوضّح الغاية الإسرائيلية المنشودة في هذه المرحلة من المتغيّرات السياسية العربية الجارية الآن في مشرق الأمَّة العربية ومغربها. فكلّما ازدادت الصراعات الطائفية والمذهبية والإثنية على الأرض العربية، كلّما اقترب الحلم الصهيوني الكبير من التحقّق في أن تكون إسرائيل هي الدولة الدينية الأقوى في منطقةٍ قائمة على دويلاتٍ طائفية. فالمراهنة الإسرائيلية هي على ولادة هذه «الدويلات» التي بوجودها لن تكون هناك دولة فلسطينية مستقلّة، ولا تقسيم للقدس، ولا عودة الملايين من اللاجئين الفلسطينيين، بل توطينٌ لهم في «الدويلات» المستحدثة وتوظيف سلاحهم في حروب «داحس والغبراء» الجديدة.
أمن إسرائيل يتحقّق (كما قال أحد الوزراء الإسرائيليين بعد حرب 1967) «حينما يكون كره العربي للعربي أكثر من كرهه للإسرائيلي». وهل يمكن نكران وقائع حدثت في حروب أهلية عربية معاصرة، كالحرب الأهلية اللبنانية، حينما كان الدور الإسرائيلي فاعلاً فيها على مدار 15 سنة، ثم استمرّ بعد ذلك عبر عملاء على كلّ الجبهات السياسية اللبنانية. أليس ذلك ما حدث ويحدث أيضاً من تدخّل إسرائيلي سافر في الأحداث الجارية لسنوات داخل سوريا والعراق، ومن علاقات علنية بين إسرائيل وبعض الجهات المتورّطة في أزمات هذين البلدين؟
إنّ نشوء دويلات جديدة في منطقة الشرق الأوسط سيدفعها إلى الصراع مع بعضها البعض، وإلى الاستنجاد بالخارج لنصرة دويلة على أخرى، وإلى إقامة تحالفات مع إسرائيل نفسها، كما حصل أيضاً خلال فترة الحرب الأهلية اللبنانية، وكما فعلت ذلك بعض قوى المعارضة في جنوب سوريا.
وحينما تنشأ هذه الدويلات، فإنّها ستحتاج إلى زيادة ديموغرافية في عدد التابعين لهذه الطائفة أو ذاك المذهب، ممّا سيسّهل حتماً مشروع توطين الفلسطينيين في لبنان وسوريا والعراق وبعض دول الخليج العربي. وفي ذلك «حلٌّ» لقضية «اللاجئين الفلسطينيين»، تُراهن أيضاً إسرائيل عليه.
وفي حقبة «الصراعات الدموية العربية»، تواصل إسرائيل بناء المستوطنات في القدس والضفة، وستزيد من درجة الضغوط على فلسطينييّ 1948 لتهجير ما أمكن منهم ربّما إلى «دويلات» تحتاجهم عدداً، بل قد يكون ذلك، بالتخطيط الإسرائيلي، الوقت المناسب لجعل الأردن «الوطن الفلسطيني البديل» مع أجزاء من الضفة الغربية.
إسرائيل بمختلف حكوماتها راهنت على تجزئة المجزّأ عربياً، وشجّعت كل الحركات الانفصالية بالمنطقة كالتي قامت في جنوب السودان وفي شمال العراق، وأقامت إسرائيل «دولة لبنان الحر» على الشريط الحدودي لها مع لبنان في ربيع العام 1979 كمدخل لمشاريع التقسيم الطائفي الذي أعدّت له منذ حقبة الخمسينات من القرن الماضي.
فكم هو جهلٌ مثيرٌ للتساؤل الآن حينما يتمّ استبعاد الدور الإسرائيلي في تفاعلات داخلية تحدث في عدّة أوطان عربية، وحينما لا ينتبه العرب إلى المصلحة الإسرائيلية الكبرى في تفتيت أوطانهم وفي صراعاتهم العنفية تحت أيِّ شعارٍ كان.
Leave a Reply