يبدو أن لا شيء تغير في البيت الأبيض بعد عشر سنوات من نشر الأكاذيب حول أسلحة الدمار الشامل العراقية التي استخدمها جورج بوش الابن ليشن مع «حلف الراغبين» الذي شكله عدواناً سافراً على العراق انتهى بتدمير قدرات البلد واحتلاله بالرغم من كافة التحذيرات التي وجهت للولايات المتحدة من عواقب ذلك بعد أن «تذهب السكرة وتعود الفكرة» وهو التعبير العربي لمقولة «ماذا عن اليوم التالي»؟
جنود إسرائيليون خلال مناورات عسكرية في الجولان المحتل الثلاثاء الماضي. (رويترز) |
ويلخص رئيس لجنة الشؤون الدولية في مجلس الدوما الروسي اليكسي بوشكوف ذلك بالقول في معرض تهديدات البيت الأبيض بشن عدوان على سوريا، إن ما يراه حاليا «وكأن جورج بوش وديك تشيني ودونالد رامسفيلد لم يغادروا البيت الأبيض… إنها في الأساس ذات السياسة، فالولايات المتحدة لم تتعلم أي شيء ولم تنس أي شيء خلال السنوات العشر الماضية. إنهم يريدون الإطاحة بزعماء أجانب يعتبرونهم أعداء لهم، حتى بدون أن يجروا أبسط الحسابات لعواقب ما يفعلون». ويضيف إن تدخلاً في سوريا من شأنه فقط أن يوسع رقعة عدم الاستقرار في الشرق الأوسط وتوسيه نطاق النشاط الإرهابي. إنني في حيرة كاملة لفهم ما الذي تفكر الولايات المتحدة القيام به».
ويبدو أن التصريحات الأخيرة للرئيس أوباما ووزير دفاعه تشاك هايغل تشير إلى تراجع الزخم الخاص بشن العدوان حيث قال أوباما بأنه لم يتخذ بعد قرارا بشأن الهجوم على سوريا، فيما قال وزير الدفاع تشاك هايغل إن القوات الأميركية مستعدة للحرب، وإن أوباما لا يزال يدرس الخيارات مع فريقه للأمن القومي والسياسة الخارجية. وأضاف أوباما أنه لا يساوره أي شك بأن النظام السوري قد استخدم أسلحة كيمياوية وليس المتمردين وأنه يجب محاسبة الرئيس الأسد بسبب ما قال أوباما إنه انتهاك للأعراف الدولية والسلوك الإنساني القويم.
وقد جاءت هذه التصريحات عقب تسريبات من البيت الأبيض الأربعاء ليلا عن تأجيل نشر الأدلة الاستخبارية حول مسؤولية الحكومة السورية عن الهجوم المزعوم في الغوطة الشرقية بدعوى أن «التقرير ليس جاهزا بعد» كما عزا البعض، التأجيل إلى ازدحام جدول الرئيس أوباما حيث عليه أن يزور ستوكهولم يوم الثلاثاء المقبل وسيشارك في قمة العشرين في سان بطرسبرغ يوم الخميس المقبل. غير أن مصادر مطلعة عزت «التأجيل إلى أجل مسمى» إلى التحذير والضغط الروسي حيث طلب أوباما من وزير خارجيته جون كيري مواصلة التفاوض مع نظيره الروسي سيرغي لافروف للتوصل إلى صفقة تحفظ لأوباما ماء الوجه قد تشمل قصفا لمواقع سورية غير مهمة ولمرة واحدة. لكن خبراء يحذرون من إمكانية خداع البيت الأبيض لروسيا بأن يكون الهجوم كاسحاً ومدمراً.
وبالرغم من الزعم الأميركي والغربي بأن أي عدوان عسكري يجري التهديد بشنه في غضون الأيام القليلة المقبلة لا يستهدف الإطاحة بنظام حكم الرئيس بشار الأسد إنما يدخل في باب «الكذب المفضوح» فالهدف هو تدمير معظم القدرات العسكرية والتخطيطية والقيادية للنظام وهو ما يؤدي حسب التخطيط الأميركي إلى جعل ميزان القوى يختلّ لصالح الجماعات المسلحة في سوريا التي تتلقى الدعم العسكري والمالي والبشري من حلف الراغبين ليمهد الطريق ليس إلى مؤتمر «جنيف2»، بل إلى حسم الصراع على الأرض لصالح الجماعات المسلحة لفرض شروط تغيير النظام في دمشق.
وسيتركز القصف الأميركي في حال وقوعه على القدرات الجوية السورية من طائرات بنوعيها ثابت الجناح والهليوكوبتر ومدارج الطائرات والقواعد الجوية إضافة إلى مراكز السيطرة والتحكم. ويقول المحلل البارز في معهد دراسات الحرب في واشنطن كريس هارمر في دراسة له في هذا الشأن ان «سلاح الجو السوري يقوم بصورة منتظمة بثلاث مهمات تعطيه تفوقاً استراتيجياً على قوات المتمردين: فهو يجلب أسلحة وإمدادات أخرى من إيران وروسيا، ويعيد تموين وتزويد وحدات الجيش المقاتلة ضد المتمردين، كما يقوم بقصف المناطق التي يسيطر عليها المتمردون». مؤكدا أن ضربة محدودة يمكن ان تعطل المهمة الاساسية لسلاح الجو السوري.
وهو ما يدعو إليه أيضا فريدريك هوف المبعوث الأميركي الخاص السابق لسوريا والمنطقة بأن مثل هذا القصف من شأنه أن يقلل القدرة على القيام بهجمات مدفعية مكثفة أو بالقذائف الصاروخية أو بالطائرات وحتى بالأسلحة التقليدية. ويجادل بعض الخبراء والمسؤولين الأميركيين السابقين بأن من المتوقع أن يقوم الرئيس السوري بالرد مدعوما بحليفيه: إيران وحزب الله على العدوان الأميركي-الغربي الممول خليجياً بإطلاق صواريخ على إسرائيل والأردن وتركيا، وأن أي قصف لمواقع سورية قد لا يحول دون مواصلة الحكومة السورية عملياتها العسكرية ضد الجماعات المسلحة، لذلك يدعو هؤلاء الولايات المتحدة إلى ضرورة الإعداد لجولة أخرى من القصف.
ويرى هؤلاء الخبراء أن إضعاف قدرات النظام السوري العسكري سيصب لمصلحة الجماعات المسلحة وخاصة «جبهة النصرة» التي دعت علنا مسلحيها إلى الابتعاد عن الأماكن التي يتوقع قصفها وايضا ترك مواقعهم الحالية خوفا من استهدافهم بصواريخ أميركية.
ويحذر الخبراء من عدم تكرار ما فعله القصف الأميركي على العراق الذي استهدف بعضه مخزونات كيماوية الأمر الذي تسبب فيما بعد فيما سمي «أعراض حرب الخليج» والتي أصابت الجنود الأميركيين بعد أن أصابت أيضا العراقيين وتسببت بإلحاق الضرر في الصحة الجسدية لهم.
وذكرت صحيفة «وول ستريت جورنال» أن التقرير الاستخباري الذي يعتزم البيت الأبيض نشره قريبا واستخدامه كذريعة لشن العدوان على سوريا يستند في الأساس إلى معلومات استخبارية قدمها جهاز الاستخبارات الإسرائيلي بزعم أنه حصل عليها من داخل وحدة النخبة الخاصة السورية التي تشرف على الأسلحة الكيمياوية السورية إلى جانب معلومات قدمتها السعودية وقطر والأردن. وقد سارعت مستشارة أوباما للأمن القومي سوزان رايس، يوم الأحد الماضي، إلى إرسال رسالة بالبريد الإلكتروني إلى المندوبة الأميركية لدى الأمم المتحدة سمانثا باور صاحبة فكرة التدخل الإنساني ضد سوريا، تقول فيها «إن التحقيقات التي تجريها بعثة الأمم المتحدة أصبحت متأخرة، وستقوم في الحقيقة بإبلاغنا بما نعرفه حاليا وهو أن أسلحة كيمياوية قد استخدمت.. وهي حتى لم تخبرنا عمن استخدمها وهو ما نعرفه حالياً». وقام وزير الخارجية جون كيري يوم الاثنين ليلا وصبيحة الثلاثاء بإبلاغ كبار أعضاء الكونغرس برسالة مختصرة وهي أن الإدارة كانت مقتنعة بأن النظام (السوري) كان وراء الأسلحة الكيمياوية التي استخدمت يوم الأربعاء الماضي.
ويرى مسؤولون عسكريون أميركيون وخبراء السياسة الخارجية أن عملا عسكريا محدودا في إطار ما يصفونه «قصفاً عقابياً» هو أمر مهم لتهدئة مخاوف بعض الدول العربية التي تشعر فعليا بأن عدوانا واسعا من شأنه أن يزيد من الآثار التي تنجم عن الحرب الأهلية في سوريا، فالحرب التي تهدد أميركا وحلفاؤها بشنها قد تسفر فيما بعد عن زيادة ما هو موجود حالياً من مشاكل وأزمات بسبب الحرب الأهلية، فإضعاف النظام بغية الإطاحة به سوف يزيد عمليات نزوح السوريين إلى خارج حدود بلادهم وخاصة الأردن ولبنان وزيادة درجة الصراع المذهبي وإعادة تجميع الجماعات المتطرفة المسلحة في سوريا، في وقت لا توجد في سوريا مجموعة معارضة تمتلك اي قدر من الصدقية يمكن أن يسمح لها بتولي السلطة في البلاد.
وترى شبكة التلفزيون الأميركية «أن بي سي» في تقرير لها أنه إذ قامت الولايات المتحدة، على الأرجح مع دول أخرى بما في ذلك تركيا وفرنسا وبريطانيا، بمهاجمة أهداف عسكرية في سوريا بشكل كبير، يمكن أن تصيب النظام السوري في مقتل، زاعمة أنه في الوقت الراهن يعتمد بشكل كبير للاستمرار في الحرب على «حزب الله» وإيران، وأن معظم الهجمات التي يشنها الجيش السوري تجري من مسافة بعيدة بواسطة صواريخ وطائرات هليكوبتر.
ويرى التقرير أنه في حال نجاح العدوان الذي تهدد به الولايات المتحدة في دفع النظام السوري إلى الانهيار التدريجي فإن سوريا قد تشهد مزيدا من القتال المكثف وأن النظام سوف يستميت في القتال حتى النفس الأخير، مستخدما كل ما يملك بما فيه الأسلحة الكيمياوية وهو ما يعني دخول المعارك مرحلة مرعبة أكثر من أي وقت مضى.
ويخشى خبراء من تشظي سوريا إلى مناطق يخضع بعضها إلى سيطرة بعض الطوائف والأقليات الإثنية المسلحة (علويين وأكراد)، وأن تبقى أجزاء واسعة تحت سيطرة الجماعات المسلحة (السنية) بما في ذلك التنظيمات المرتبطة بالقاعدة مثل جبهة النصرة ودولة العراق الإسلامية التي تسعى إلى الحلول محل جبهة النصرة.
كما يخشى الخبراء من زيادة انتشار الاقتتال الطائفي والمذهبي والعرقي. وطبقا لهذا السيناريو فإن النظام قد يتفكك في الوقت الذي يحتدم فيه القتال ويشتد عنفا، في وقت تأمل فيه الولايات المتحدة في أن يتمكن «الجيش السوري الحر» الذي تعول عليه، من الخروج معافى في خضم الفوضى التي ستشهدها سوريا.
أما على الصعيد الدولي فإن إيران قد تأخذ موقفاً مزدوجاً، في الوقت الذي يرجح فيه خبراء أنها لن تخاطر بالدخول في مواجهة، فإن آخرين يأخذون تهديدات مسؤوليها على محمل الجد بالحيلولة دون سقوط النظام في سوريا، أما «حزب الله» فلن يتراجع عن تهديداته فهو أكثر الأطراف المهددة بالتأثر السلبي في حال نجاح العدوان الأميركي لذلك لن يتورع في سياق اجتذاب الدعم الشعبي العربي من مهاجمة أهداف إسرائيلية ليصبح لبنان مسرحا لهجمات إسرائيلية.
وفي حال حدوث انهيار كامل داخل سوريا فهذا سيدعو الولايات المتحدة وحلفاءها والعالم إلى البحث عمن يملأ الفراغ وليزداد عدد الدول «الفاشلة» بسبب العدوان الأميركي.
أما أول انعكاسات الجهود الأميركية لتهيئة مسرح العدوان على سوريا كان في سوق الأسهم الأميركية والأوروبية حيث شهد انخافضا كبيرا هو الأكبر خلال الشهرين الماضيين فيما ارتفعت اسعار النفط لتصل إلى 11٦ دولاراً للبرميل فيما قد تكون «قمة العشرين» التي تستضيفها روسيا الأسبوع المقبل ضحية العدوان المحتمل، ففي الوقت الذي تعارض فيه روسيا خطط الحرب وتحذر من القيام بها فإن معظم المشاركين في القمة هم ممن يرفضون حتى الآن الاستماع إلى التحذير الروسي ويشكلون حلف الراغبين لشن الحرب. فهل يريد الرئيس أوباما إحراج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ويعرض للخطر العلاقات الهشة الحالية بين الولايات المتحدة وروسيا، خاصة وأن سبق مؤخرا إلغاء لقاء بين الرئيسين، الأمر الذي قد ينعكس على مجمل العلاقات الدولية ليشهد العالم مجددا حربا باردة من نوع آخر.
Leave a Reply