ليس مفاجئاً أن تتعرض النائبة العربية الأميركية في الكونغرس إلهان عمر للحملة الشرسة التي انطلقت بعد ساعات قليلة من نشرها تغريدة على موقع «تويتر» تتهم فيها السياسيين الأميركيين الموالين لإسرائيل بقبض الأموال من «البنيامينات»، في إشارة إلى الورقة النقدية من فئة المئة دولار التي تحمل صورة بنجامين فرانكلين.
إذ سرعان ما انطلقت المعزوفة التقليدية ذاتها، بوصم منتقدي إسرائيل أو معارضيها، بمعاداة الساميّة وكراهية اليهود، والتي تحولت إلى نهج راسخ، يسعى إلى مراكمة الأرباح السياسية، وخنق أي نقاش حول سياسات الدولة العبرية في قمع الفلسطينيين واستمرارها في الاحتلال الاستيطاني لأراضيهم.
سهام الانتقادات المصوبة نحو النائبة عن ولاية مينيسوتا، لم تأت فقط من زملائها تحت قبة الكابيتول، وفي طليعتهم الديمقراطيون، بل وصل الأمر إلى حد مطالبة الرئيس دونالد ترامب باستقالتها، بالرغم من اعتذارها وتراجعها عن التصريحات التي لم تأتِ أصلاً بأي جديد، لاسيما وأن القاصي والداني، في الولايات المتحدة وخارجها، يعلم علم اليقين دور «لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية» (آيباك) في توثيق العلاقات بين أميركا ودولة الاحتلال.
لكن الاعتذار الذي «لا لبس فيه» لم يشفع للنائبة الصومالية الأصل، وليس متوقعاً أن يشفع لها، ولا لزميلتها العربية الأميركية رشيدة طليب التي تعرضت هي الأخرى لحملة تشويه مماثلة لا تقل شراسة، خلال حملتها الانتخابية، وكذلك بعد وصولها إلى الكونغرس.
النائبتان العربيتان اللتان نجحتا في الوصول إلى الكونغرس، في سابقة تاريخية، وُصمتا بتلك التهمة الجاهزة: معاداة الساميّة! وذلك بسبب نقدهما لسياسات تل أبيب، ودعمهما لحقوق الشعب الفلسطيني في التحرر الوطني من أعتى الاحتلالات القمعية في التاريخ البشري.
وفي كل مرة، تعود جماعات الضغط واللوبيات المؤيدة للدولة العبرية في أميركا، وكذلك حول العالم، إلى استخدام التكتيك ذاته، في محاولة لترهيب كل من يتجرأ على انتقاد إسرائيل وسياساتها العدوانية، أو دعم واشنطن وغيرها من عواصم العالم لسياسات تل أبيب العنصرية. وفي كل مرة، تنجح تلك «اللوبيات» بضرب عصفورين بحجر واحد، فمن جهة تخنق أي نقاش حول الاحتلال الإسرائيلي وتداعياته المأساوية، وتزيد من تعميق الدعم للدولة العبرية، من جهة ثانية.
وهنا، لا بد من الاعتراف بأن «معاداة السامية» هي ظاهرة سياسية وثقافية موجودة بالفعل، وقد تنتج عنها عواقب وخيمة ونتائج أليمة، مثلما حصل في المجزرة الرهيبة التي ارتكبها متعصب أميركي أبيض في كنيس يهودي بمدينة بيتسبرغ بولاية بنسلفانيا، وأسفرت عن مقتل أحد عشر يهودياً، في كانون الثاني (يناير) 2018.
ورغم فداحة تلك المقتلة وفظاعتها، إلا أن النقاش حولها لم يتعد المناسبة الظرفية لتلك المجرزة، على عكس ما يحصل حين يقوم بعض المسؤولين الأميركيين بانتقاد تقديم بلادهم الدعم غير المحدود لإسرائيل، من أموال دافعي الضرائب. في حالة هذه، يكون هؤلاء المسؤولون بمثابة من يحفر قبورهم السياسية بأيديهم.
لم تأت عمر بأي جديد، فيما يخص «إيباك» واستخدامها الأموال بهدف التأثير على القرارات السياسية المؤيدة للدولة العبرية، فـ«آيباك» نفسها تعترف بأن عائداتها السنوية تفوق المئة مليون دولار، بحسب صحيفة «وول ستريت جورنال»، وأن لديها أكثر من 400 موظف تناط بهم ممارسة الضغوط على أعضاء الكونغرس.
وعلاوة على ذلك، تضم هذه المنظمة أكثر من 100 ألف عضو تتوزع قياداتهم الأدوار لاستقطاب المرشحين للمناصب العامة أو إقصائهم، وكذلك تفعل الشيء نفسه مع المسؤولين الحكوميين والمنتخبين الرسميين، فضلاً عن امتلاكها للجان عمل سياسية تجمع تبرعات بملايين الدولارات توظفها في تمويل السياسيين الذين يتبنون خياراتها، أو لإقصاء المعارضين لتوجهاتها السياسية.
التوجه السياسي لـ«إيباك» ليس سراً من الأسرار، ولا لغزاً من الألغاز. بل على النقيض من ذلك، هو توجه معلن ومعروف، ولم يكن الأميركيون ينتظرون النائبة عن مينيسوتا لكي تفضح المستور.
في تحقيق أجرته «شبكة الجزيرة» في 2016، استطاع أحد المراسلين المتخفين، التسلل إلى عقر دار منظمة «مشروع إسرائيل»، وسجل لمدة ستة أشهر محادثات سرية بين قيادات تلك المجموعة الداعمة للدولة العبرية، والتي تتخذ من العاصمة واشنطن مقراً لها.
وبسبب ضغوط اللوبي الإسرائيلي لم تبث «الجزيرة» ذلك التحقيق الاستقصائي، لكن في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، قام موقع «الانتفاضة الالكترونية» ببث تلك التسجيلات عبر أربع حلقات، وهي تظهر بشكل واضح (ولا لبس فيه، كذلك) كيفية توظيف تلك المجموعة للمال، للتأثير على العملية السياسية في واشنطن.
ومن المفارقات المؤلمة، أنه يمكنك في الولايات المتحدة، الحديث عن أي شيء ما عدا دعم إسرائيل والمؤيدين لها. يمكنك الحديث عن «جمعية البنادق الوطنية» (أن آي أي) أو عن «لوبي الأدوية» أو غيرها من المواضيع الأخرى، أما المساس بالدولة العبرية فهو خط أحمر.
ومن هذا المنطلق، فإننا –في «صدى الوطن»– نعتبر اعتذار عمر عن تصريحاتها بإجلاء حقيقة «إيباك»، تراجعاً مؤذياً يكرس مخاوف السياسيين والمسؤولين والأكاديميين الأميركيين من البوح بالحقيقة: حقيقة إسرائيل ودعم أميركا غير المحدود لها.
Leave a Reply