غالباً ما تحيل الثلوج المحيطة بنا من كلِّ جانب، حياتَنا إلى كتلة هائلة لا حراكَ فيها، تضطرّنا معها إلى ملازمة البيت في أكثر الأحيان، خصوصاً نهار الأحد الفائت، بعد أن اشتدّ إلحاح الثلج وإصراره على مواصلة التساقط، وسط هذا الجوّ الذي لا يوحي إلا بالوحشة والكآبة، بينما كنتُ جالسةً في غرفتي، هاربةً من وحشة منظر الثلوج، سرح خيالي إلى البعيد، فرحتُ منقادةً إليه، أستعيد ذكريات الماضي الجميل الذي أتوق إليه كلَّ يوم، وأتمنّى لو يرجع بي الزمان إلى الوراء لأتخلّص من كوابيس الحاضر الكئيب الذي لا أتمنّاه حتّى للعدو، دفعني الشوق والحنين إلى الإتّصال هاتفيّاً بمكان عملي السابق، حيث لا وجود للثلج إلّا في أجهزة برّادات البيوت، لتفقّد زميلاتي في العمل، والإطمئنان على أحوالهنّ، وسماع الأخبار السارّة التي حُرمتُ منها باختياري العيش هنا.
أدرتُ رقمَ الهاتف المحبَّب إلى قلبي، ذلك الرقم الذي لم أكن أحفظه عن ظهر قلبٍ فقظ، وإنّما كان محفوراً فيه لمدّةٍ تجاوزت الخمسة والعشرين عاماً، ولم أنسَهُ حتّى بعد مُضِيّ اثنتي عشرة سنةً على غربتي الثانية هنا، ردّت موظّفة البدّالة بابتهاجٍ حال سماعِها صوتي، فأثارت أشجاني حين أخذتْ تصرخ بكلمات الشوق والحنين، وأيقظت مكامنَ الإعتزاز بمناداتها عليّ: «يا حبيبةَ الجميع»، وبعد الإطمئنان عليها رجوتُها أن تُحيلَني إلى صديقتي وزميلتي ليلى، فإذا بها تتلعثم بالكلام وتضطرب لتنهي كلَّ ذلك بالصمت.
استغربتُ الأمر، فألححتُ عليها مكرِّرةً رجائي بالتوضيح، فأجابتني بغصّةٍ مصحوبةٍ بحشرجةٍ بالكاد تخرج من بينها الكلمات: «ليلى تُوفِّيَتْ منذ سنتَيْن، إثرَ مرضٍ لم يمهلها أكثر من ثمانية أشهر»، فوقعَ الخبر عليَّ وقعَ الصاعقة، وسدّ الطريقَ على الفرحة التي كنت أنتظرها بسماع صوت صديقتي الأثيرة ومحادثتها، اهتزّ زندي وارتعشتْ ذراعي لمداهمة الخبر، فسقطت سمّاعة الهاتف من يدي، شعرت كأنّ أشياء قد تساقطت من على الرفوف، واهتاجت الستارةُ كأنّما تريد أن تتمزّق، لحظتَها فقدَ كلّ شيءٍ بريقَه، حتّى الإضاءة غارت وراء المصابيح، فسادَ ظلامٌ دامس لفّ كلَّ الأرجاء من حولي، شعرتُ أنّ بناءً كاملاً في قلبي قد انهار، فأصبحتُ كطائرٍ مذبوح يغرغر، ويرفس بجناحيه دون تحديد وجهةٍ لحركتِه المتشظّية، وراحت أصداء الماضي تتردّد على مسمعي، أستعيد ذكريات الأيام التي عشناها سويّةً، نقهر الغربةَ بتلك الإلفة والحميميّة والتعاون المشترك على تجميل حياتنا وتمشية أمور أسرتينا بانسيابيّةٍ لا يعكّر صفوَها شيء على الإطلاق، راح وجهها البشوش بابتسامتها التي لا تفارق شفتيها، يتراءى أمامي، يتحرّك في كل اتّجاه أدير وجهي إليه، ماثلاً نصبَ عيني، أبثّها النجوى، ولوعة الحنين.
كانت صديقتي ليلى تعمل بكلّ جدٍّ ونشاط، ناجحةً في عملِها، كما كانت مثالاً رائعاً للأمّ الحنون، حرصت على تعليم أبنائها في أفضل المدارس، تتابع شؤونهم بكل صعيرة وكبيرة، تبثّ في نفوسهم قيمَ الخير والتقرّب إلى الله، وتلقّنهم دروس التآلف والصدق ومحبّة الناس، إنّه لممّا يحزّ في نفسي ويعتصر قلبي ألماً أنّها بكّرت الرحيل، قبل أن تقطف حتّى ثمرة واحدة من أتعابها، ولم تسعد بمرأى زواج أحدٍ من أبنائها، كانت جلّ آمالها أن تشهد تخرّجهم من الجامعة، وأن يتزوّجوا بعدها، وترى أحفادَها، وتعود لمواصلة بقيّة حياتها برفقة زوجها في بلدها سوريا، بعد رِحلة العناء الطويلة مع الكفاح في مسيرة العمل، لكنّ الحلم لم يتحقّق، إذ كانت يدُ القدر أسرع من أن تدركه.
رحمكِ الله يا أمّ شادي، ياحبيبتي وصديقتي التي لن أنساها ما حييت، وأسكنكِ فسيحَ جنّاته ثواباً لجهادكِ الطويل في الحياة، وإكراماً لأمومتكِ المثلى، وخصال الوفاء لعِشرةِ المحيطين بكِ، وتبنّيكِ الرحمةَ لجميع من التقيتِ بهم، يا سليلةَ الرحمة.
Leave a Reply