فاطمة الزين هاشم
حينما يواجه الإنسان حالة الفراق الأبدي لأحد ذويه المقرّبين، ينتابه شعور يمتزج فيه الأسى بالفراغ العاطفي لتعقبه الحسرة الطويلة وسطوة اللوعة بإلحاحها على استرجاع ذكريات الأحبة المفقودين وخاصة عند فقدان الحضن الدافئ الذي كان يلجأ إليه المحزون في الأوقات العصيبة وينهل من العاطفة الصادقة والاحتضان الأبوي بلا حدود.
إنّ وجود أذرع الأبوين في إحاطة الأبناء الحزانى قد يخفّف من وطأة الفقدان على الرغم من أنّ لا أحد يستطيع أن يمنح العطف والحنان والطمأنينة والتضحية بمثل ما يقدّمانه، فكيف إذا واجه الفرد هذا الفقد جملةً واحدة؟ إذ كنت عندما تشتعل نار الشوق في صدري لوالدتي رحمها الله ألجأ إلى خالتي، أجلس إلى جانبها أقبّلها وأملأ عيني بالنظر إلى وجهها المبتشر المضيء فأرى ملامح والدتي في محيّاها، أنظر إلى عينيها اللتين تشبهان عيني والدتي فأشعر بقليل من الارتياح فيبرد الهيجان الذي يغلي بداخلي ويخفّ الحزن الذي يطبق على صدري، ولكنّ القدر المحتوم لم يرحمني حتّى بهذه النعمة، بحيث لم يبق لي هذه المؤاسية الكبيرة التي كانت ملجأي الوحيد، فامتدّت يده لتخطفها مني ومن أبنائها المحبّين والمخلصين لها، الذين خدموها بكلّ مودّة واهتمام أثناء مرضها، فقد أعزّوها وأكرموها وجعلوها ملكة متوّجة فوق رؤوسهم إذ لم يشعروها يوماً بأنها عبءٌ عليهم، بل عملوا بما أوصى به ربّ العالمين في البرّ بالوالدين.
ولشدّ ما يحزّ في نفسي أنها لم تعش كباقي البشر، حيث قضّت حياتها متنقلة من طبيب إلى آخر ومن مستشفى إلى أخرى، ما إن تستعيد صحتها من ابتلاء مرضيّ حتى تُصاب بابتلاء آخر أشدّ صعوبة، إلا أنها رغم ذلك لم تفقد الأمل، فكنّا نراها على الدوام مبتسمة وراضية بحكم الله، صبورة تمازح الجميع وتزرع الأمل في نفوسهم.
عاشت خالتي أم سليم مع زوجها بمرّ الحياة وحلوها، تعبت وعملت وكافحت وواجهت صعوبات الحياة كباقي نساء البلدة آنذاك، حيث كانت النساء تذهبن مع الرجال إلى العمل منذ الصباح وبعضهنّ حوامل، ولم تكن التكنولوجيا قد غزت تلك البلدات بعد، فكان عليهنّ أن يقمن بغسل الملابس بأيديهنّ كما القيام بجميع أعمال المنزل مروراً بالطبخ والتنظيف رغم عمل يوم طويل وشاق خارج المنزل، وكان يحدث كل ذلك من دون تذمّر أو اعتراض، حيث بساطة الحياة وبُعدها عن التعقيدات ناهيك عن قلّة الأمراض.
لقد ربّت خالتي أبناءها على حبّ الغير وعمل الخير وعبادة الله، فكانت المثال الصادق أمامهم، لا تستغيب أحداً ولا ترضى الظلم لأحد أيّاً كان، محبّة للجميع ومحبوبة من الجميع، لذلك بكاها كل من عرفها كما نعوها لدماثة خلقها وحسن معشرها ونزاهة طباعها.
وها أنّي يا أمّي الثانية ويا أيّتها الحبيبة أقف أمام فقدانك وكأني أشعر بفقداني لوالدتي للمرة الثانية، وبذلك فقدت مبلسمة جراحي وملجأي الوحيد كلّما حاصرتني الهموم، وقد كنت الواحة التي أستريح في رحابها وأنهل العطف من معينها أيّتها الينبوع الذي لا ينضب من الحنان والمتدفّق لينعش من حوله.
أدعو من الله أن يجمعك بوالدي ووالدتي وأن تتوحد الدوحة الهاشمية في جنان الخلد، حيث يحتضنكم جدّكم رسول الله (ص) لأنكم من فرعه الطاهر الذي حفظ الأمانة وصان العهد وصدق الوعد.
Leave a Reply