يا دنيا يا غرامي. يا دمعي يا ابتسامي. مهما زادت آلامي. قلبي يحبك يا دنيا.
عندما كانت تمطر السماء. كنت أسمعها تترنم بهذه الأغنية بصوت يفيض سعادة وحبورا. ولمعان ساحر قلما كنت أراه يطل من عينيها الخضراوين الجميلتين. لصغر سني كنت أعتقد أن الغرام هو إسم الدلع للمطر، وذلك لوجود هذه العلاقة الآسرة بينها وبين المطر. بخشوع كنت أتمنى أن تمطر الدنيا صيفا وشتاء فقط لأراها فرحة وأسمعها تغني: يا دنيا يا غرامي يا دمعي وابتسامي.
كان نزول المطر شحيحا في لبنان، وكذلك كان الفرح. عندما جمعتنا الغربة سويا هنا في ديربورن، حيث المطر يسقط في الصيف أكثر من الشتاء، وفي ساعة صفاء كنت أجلس وإياها على البرندة وسألتها: لماذا تحبين المطر؟ أشارت إلي بما يعني: أسكتي.
عندما كبرت ووعيت الدنيا، أدركت وعرفت لماذا كان يفرحها المطر ولا تتضايق أو تتعصب في أيام الشتاء، وذلك لأن الأيام تكون قصيرة وساعات النهار قليلة والليالي طويلة. وهذا يعني أن العمل أقل والشقاء أخف في الشتاء. تمشي الحياة ببطء ويستطيع الفلاح أن يرتاح في بيته من عناء العمل الشاق في الحقول والكروم وزراعة الدخان.
وحتى الآن لست أدري لماذا كانت البساتين والحقول تبدو خضراء كل السنة في القاطع المجاور، في إسرائيل، ولماذا توارث الفلاحون عندنا، في جنوب لبنان، التعب جيلا بعد جيل، دون تطوير وجعل الحراثة والفلاحة والعناية بالأشجار أكثر إنتاجا وأقل تعبا؟!
كنت أعتقد أن الحياة هنا في ديربورن سوف تروق لها، وكطفل صغير سوف تفرح بالمطر والخلود الى الراحة بعد عناء سنوات التعب وأيام العذاب في القرية وإنجاب العديد من الأبناء والبنات. لكنها للأسف في أكثر الأحيان، عندما أكون وإياها سوياً، كانت تجلس وحيدة وتتأمل فيّ مثل شرنقة تلفها وتدور عيناها الجميلتان في غرفتها الضيقة وتظل تتوق الى صمت أعمق. كان صعبا جدا عليها أن تتفاعل مع محيطها أو تدخل في حوار مع المكان الجديد رغم وجود الكثيرين حولها ممن تعرفهم أو لا تعرفهم.
كان لا شيء يعوضها عن بيت قديم، كان يؤويها وجيران تعودت معشرهم، ودفء أحضان قريتها حين هاجرت عنها كي تقيم في صقيع المكان الغريب والبعيد.
كانت تجلس ساعات في مناخ عزلتها وإن تكلمت فبكلام مشحون بالعاطفة والحنين في معظم الأحيان لسكان ذاكرتها. الأهل والجيران والأحباء الذين رحلوا وإلى الابن الغالي الشهيد الذي تركها فريسة للمرض والوحدة. هنا في ديربورن، كانت تنهض باكراً وتطوف في شوارعها وتبحث عن شيء مفقود. اسمه الأمل. للأسف لم تجده. كان الجميع مشغولا ولاهيا عنها، ظانين أنها سوف تبقىها الحياة إلى الأبد، لكنها لم تبق!
في إحدى المرات كنت أعمل في المطبخ وكانت ترقب هطول المطر من النافذة وكان صوت مرسيل خليفة في آلة التسجيل: اني اخترتك يا وطني سرا وعلانية. إني اخترتك يا وطني حباً وطواعية. نزلت دمعة حزينة من عينيها الجميلتين وقالت: لم يعد لي وطن. لم يعد لنا وطن.. أين الوطن؟
قلت لها: لماذا تبكين يا أمي.. انظري الى المطر ألا تذكرين أغنية: يا دنيا يا غرامي. يا ريت لو أسمعها منك ولو لآخر مرة.
كنت أتمنى لو ترد علي حتى ولو بصوت عال مؤنب لي مثل أيام زمان. لكنها لم ترد. في يوم من هذا الشهر رحلت أمي.
كلما نزل المطر أقف احتراما وحبا له وأصلي بخشوع أن يهطل بغزارة على أمي المغروسة مثل زيتونة، منذ عشر سنوات في التراب الذي ينبت سنابل وشتلات تبغ! وكلما باعدت الأيام والمسافات، تقترب مني أكثر..
Leave a Reply