عباس الحاج أحمد
تقف الكاتبة والأكاديمية التركية إليف شافاق ما بين حاضر الزعيم مصطفى كمال أتاتورك وماضي الإمام عثمان بن عفان. تسير بمنطق علمي يبحث عن روحانية تعلو فوق المادة. فهي عاشقة لهندسة الدائرة ورافضة لأقطاب المثلث أو المربع. الدائرة الصوفية التي تجعل الجميع متساوين وعلى مسافة واحدة من المركز بعكس مثلثات الأديان ومربعات الطوائف. دائرة بحث وحب يختصرها الحلاج بما يلي:
«أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا».
تؤكد الكاتبة دائماً في تصريحاتها وبين طيات كتاباتها على المسؤولية الكبيرة التي تقع على عاتق الكاتب. إذ أن الأديب يستطيع أن يحمل بيده، المهمش والمظلوم والوحيد. يستطيع الأدب أن يتكلم بصوت الذين لم تكن لهم كلمة في الماضي. فهي تهتم بمن هم ليسوا في المركز. ونلحظ ذلك بكتاباتها عن الأقليات وسبرها لأغوار المهمشين فكرياً أو سياسياً.
الذاكرة الجماعية
تهتم الكاتبة بكل ما يتعلق بالذاكرة. وتعتبر أن فقدان الذاكرة واسع الانتشار في تركيا. وهذا ما يبدو جلياً في روايتها «لقيطة اسطنبول» والتي فتحت خلالها جدلاً سياسياً واجتماعياً واسعاً. تشكل المجزرة الأرمنية مادة أساسية لما تريد إثباته. فهي تدخل إلى أحداث التاريخ لكي تنقذ المهمش وتتعلم ما هو الأفضل للمستقبل. وهنا تنشأ أهمية «التذكر». تقف في خط وسطي بين المحافظ الذي يريد التوقف في سجن الماضي وما بين دعاة الأمة الجديدة المنعزلة عن ماضيها. تريد انتقاء الجمال من ماضيها والاعتراف بالبشاعة أيضاً. فليس كل قادتها عظماء. تعتبر أن تناسي الأرمن لمجزرتهم يقترن بتذكر الأتراك لهم أولاً. تنتقد إليف، الهويات الجماعية وتؤمن بالهوية الفردية. وقد تم اتهامها بإهانة الذات التركية تبعاً للمادة 301 في الدستور التركي. ردت بعد ذلك بأنها كاتبة تنسج حكايات عن التعاطف مع الآخرين وليست مشجعة كرة قدم مع فريق ضد آخر. هي تعمل دائماً للحد من كبرياء الناس. فالأنا المتضخمة هي مشكلة نعاني منها جميعاً.
تشكل أحداث الشرق الأوسط الدموية دليلاً دامغاً لرسائل شافاق في رموزها الأدبية. قبل خمسين عاما اعتقد الجميع بأن التعصب الديني والقومي سيختفي. لكن ما حدث هو العكس. عدم التعلم من الأخطاء التاريخية ليس تركياً فقط. هو شرق أوسطي بامتياز.
الصوفية والعشق
أعادت شافاق إلى عصرنا الحالي قصة من القرن الثالث عشر وربطتها بالقرن الحادي والعشرين في وجه تشابه مليء بالتعصب. قصة، جعلتها كاتبة عالمية، بعنوان «قواعد العشق الأربعون» والتي أحيت بها علاقة شمس التبريزي بجلال الدين الرومي. قصة تطهير للنفس في عصر ما بعد الحداثة. وعودة إلى كهف العزلة التأملية الذاتية في زمن الانهماك اليومي بالاستهلاك. إعادة إعطاء شأن هام للروح في عصر المادة ولكن بثقافة حياة لا ثقافة موت على نهج مولانا جلال الدين الرومي الذي يقول: «كل نفس ذائقة الموت ولكن ليس كل نفس ذائقة الحياة».
تهتم الكاتبة بجميع أنواع التصوف من مختلف الديانات لأنها متصلة ببعضها البعض. وهي تُفرق بين الروحانية والتدين. فالروحانية تعبر عن الاتصال والتواصل والرحلة إلى سبر غور الذات. الحياة في الفلسفة الصوفية عبارة عن دائرة كبيرة. كل فرد من هذه الدائرة يقف على الدرجة نفسها من مركزها. إنها دائرة وليست مثلثاً أو مربعاً. وهكذا الجميع متساوون دون استثناء. «الصوفي لا يحق له أن يحكم على أي كان. لأن ما سأنتقده في الآخرين موجود في داخلي أصلاً». هذا هو النهج الذي ألهم شافاق لقواعد عشق التبريزي والرومي معتبرة أن الحياة لا تقتصر على المادة. وتقول في إحدى تصريحاتها «عندما أسمع نقاشات بين المؤمنين والملحدين كلاهما يبدوان واثقين من أنفسهم. لكن المتصوف غير واثق من أي شيء بشكل كامل بل هو أكثر تواضعا وأنا أحب هذا التواضع».
حليب أسود
بعد إعطاء شافاق هامشاً واسعاً من كتاباتها لعالمها الروحي، عادت لتسبر أغوار هرموناتها بروايتها «حليب أسود». الحليب المسكوب من أم مصابة باكتئاب ما بعد الولادة. تتحدث بتلك الرواية عن الصراع بين الكاتبة الأنانية التي تحتاج للهدوء ومابين الأم المتفانية المليئة بالعطاء. فالثابت علمياً أن كيمياء جسد المرأة يتغير بعد الولادة، لتمر بمرحلة من الأضطراب العاطفي. رواية تتأرجح ما بين الأمومة والإكتئاب. وخلاصة التجربة الخاصة لشافاق الأم هي تقديرها للأمومة والإكتئاب معاً. فالأمومة هبة رائعة وجميلة والاكتئاب فرصة للتوقف وتأمل النفس لإعادة بنائها. وهي التي عاشت الاكتئاب بتجربة توقفت فيها عن الكتابة لعدة أشهر في انهيار أعادت به تركيب ذاتها بحلة جديدة.
تتحدث شافاق عن الهوية الجنسية وتأثيرها على الذات. وهي المؤمنة بتحرر المرأة والمساواة بين الجنسين. فقد عاشت تجربة خاصة ألهمت نشاطها النسوي. تعبر عن عودة أمها إلى تركيا بروح ضعيفة بعد طلاقها بعمر العشرين قائلة:
«جدتي ساعدت أمي كثيراً، بالرغم من أنها شرقية وروحانية جداً بينما كانت أمي مدينية النشأة وعصرية. فبعد طلاق وكانت قد تركت الجامعة بدون مؤهلات… الطبيعي في تلك الظروف أن تتزوج المرأة المطلقة لتستر نفسها، هذا هو السائد. لكن جدتي ساعدت أمي كثيراً لتعود إلى الجامعة وتؤمن وظيفة وتستعيد قوتها».
الروح الغجرية البدوية
تحمل شافاق روحاً بدوية غجرية تجعلها كثيرة التنقل بحثاً عن الإلهام. تتنقل عبر الزمان والمكان كما رأينا في رواياتها. وإلهام جسدته بأسماء ولديها. ابنتها «شهرزاد زيلدا» حيث يحمل الاسم الأول عنوان أعظم راوية في تاريخ الشرق، والاسم الثاني من «زيلدا فيتزجيرالد» الروائية الأميركية. واسم ابنها «أمير زاهر»، الاسم الأول مأخوذ من التقاليد الشرقية القديمة، والاسم الثاني مأخوذ من قصة لبورخيس، ومن كتاب لباولو كويلو يحمل العنوان ذاته. أسماء وعناوين وأمكنة ترسم فسيفساء بشرية بخلطة مابين الشرق والغرب وما بين المادة والروح. خلطة تشبه شافاق الكارهة للهويات الجماعية والعاشقة للفردانية الإنسانية العابرة لكل الأمم.
Leave a Reply