كثيرة هي العبر التي يمكن لرجال السياسة استخلاصها من التجربة المريرة والقصيرة التي انتهت بحاكم واحدة من اكبر واهم الولايات الاميركية الى اعلان استقالته بعد مضي اقل من سنة على فوزه بهذا المنصب بنسبة كاسحة من الاصوات بلغت اكثر من سبعين بالمئة.
اليوت سبتزر وقف بالامس والى جانبه زوجته ممتقعة الوجه، مقدماً اعتذاره لها ولأفراد اسرته ومناصريه بكلمات تنضح بالكآبة وتؤرخ لنهاية مثيرة لحياة هذا السياسي الشاب (48 سنة) الذي ساوم في لحظات من الرعونة والطيش على مستقبل سياسي واعد كان بانتظاره، لقاء شهوة عابرة وهو المعروف بحزمه وقسوته في محاربة الفساد ومنها على الاخص، الدعارة، منذ ان كان مدعياً عاماً لولاية نيويورك لفترة ثماني سنوات.
سقط اليوت سبتزر في الفخ الذي يخشاه كثر من السياسيين امثاله، ولم يسعفه تحالف شهوة السلطة مع شهوة الجنس في الافلات من الفضيحة التي كمنت له في الغرفة 871 في فندق «ذي ما يفلاور» في العاصمة الاميركية.
لا تقارن فاتورة الاربعة آلاف وثلاثمائة دولار التي دفعها لشبكة «دعارة النخبة» لقاء ساعتين مع احدى الحسناوات الجامعيات المنتميات الى «نادي الامبراطور» العالمي ذي الخدمة الفخمة، مع الفاتورة الكبرى التي انهت الحياة السياسية لهذا اليهودي الاميركي الطامح الى اعلى المناصب في السياسة الاميركية.
ربما كان الحاكم المفجوع سبتزر يسير على خطى كبار الديموقراطيين ممن شوهت صورتهم السياسية فضائح اخلاقية منذ عهد هذا الحزب بالحكم، اذ يلاحظ بعض المؤرخين ان جميع الرؤساء الديموقراطيين منذ الحرب الاهلية الاميركية، باستثناء هاري ترومان و«المعمداني المؤمن» جيمي كارتر تورطوا بصورة او بأخرى في علاقات جنسية خارج اطار الزواج. ولعل جون أف كينيدي ابرزهم واكثرهم «نشاطاً» وتهوراً في هذا المجال، وقصته الشهيرة مع نجمة الاغراء في الستينات مارلين مونرو لا تزال تظلل السيرة الشخصية لذلك الرئيس الذي احبه الاميركيون «رغم كل شيء».
اكتسب إليوت سبتزر في رحلة صعوده السياسي القصيرة نسبياً الكثير من الشهرة، فخلال توليه منصب المدعي العام اطلقت عليه القاب مثل »شريف وول ستريت» ومستر كلين (الاستاذ النظيف) لشنه حملة لا هوادة فيها على المتلاعبين باسواق البورصة وضد شبكات الدعارة. (نعم) لارتباطها بعمليات تبييض الاموال.
توقيت الفضيحة التي اطاحت بـ«المهنة السياسية» لحاكم نيويورك القوي جاء غاية في السوء لحزبه الديموقراطي وهو احد «ناخبيه الكبار» في خضم كفاح هذا الحزب لايصال مرشح (او مرشحة) يتمتع بالصدقية والقوة لمجابهة المرشح الجمهوري القوي جون ماكين واخراج الجمهوريين من البيت الابيض، واضر بصورة مباشرة بحليفته المرشحة هيلاري كلينتون التي كانت تعول على دعمه في المؤتمر الوطني للحزب الديموقراطي وهي التي تمثل الولاية الحيوية ذاتها التي ارغمت الفضيحة المدوية سبتزر على التخلي عن حاكميتها. وثمة من تكهن بأن سبتزر ربما كان احد المفضلين لمنصب نائب الرئيس نظراً للقوة الشعبية التي اوصلته الى حاكمية نيويورك.
اعادت هذه الفضيحة، بلا شك تذكير هيلاري بالفضيحة التي تورط فيها زوجها الرئيس الاسبق بيل كلينتون مع المتدربة السابقة في البيت الابيض مونيكا لوينسكي، والتي كادت ان تطيح برئاسته في العام 1997 ولعلها، وهي تستمع الى «خطاب المغفرة» بالنبرة الكسيرة، لحاكم نيويورك المتحول في سجل التحقيقات الفدرالية الى «الزبون رقم 9» لشبكة الدعارة «الراقية» قالت في سرها: «ما اشبه اليوم، بالامس» عندما وقفت الى جانب زوجها الرئيس وهو يدلي باعترافه النهائي بعلاقته مع المتدربة الشابة، بعدما كان قد واجه المحققين امام ملايين الاميركيين بقولته الشهيرة مشفوعة بحركة اصبعه المميزة «ليس لي اي علاقة مع هذه الامرأة».
ولعل سبتزر فقد الشجاعة المرحلية التي امتلكها «ثعلب الكلام» بيل كلينتون قبل ان «ينجح» في اعترافه وفي افشال معركة اسقاطه بالنقاط مع المحقق المستقل المحافظ كينيث ستار، وبعدما تخطى امكانية السقوط بالضربة القاضية.
اخفق إليوت سبتزر في التفلت من تداعيات الفضيحة التي جاء دويّها اعلى من اي مراوغة او مناورة للبقاء في المنصب، وهذا وجه ايجابي يحسب لنظام المساءلة الاميركي الذي يمكن ان يبدأه صحفي استقصائي في صحيفة مثل «نيويورك تايمز» ويكبر ككرة الثلج يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة الى ان يؤدي الى زلزال في الحياة السياسية للمشاهير ويحولهم الى مادة للتندر في برامج «آخر الليل». فها هو ديفيد لاترمان، مقدم البرنامج الساخر الذي يحمل اسمه على شبكة «اي بي سي»، يسوق «عذراً» لسبتزر مفاده: «اعتقدت ان بيل كلينتون قد جعل من هذه الممارسة شرعية قبل سنوات!»
بالطبع، لن تعجب هذه الفكاهة السوداء المرشحة كلينتون التي عضت على جراحها ووقفت الى جانب زوجها الرئيس في معركة إطاحته قبل عقد من الزمن، وهي تحاول النيل من منافسها القوي باراك اوباما في السباق المحموم الى الفوز بترشيح الحزب الديموقراطي.
وفي حين لم يظهر اوباما علنا اي «شماتة» بالنكسة الجديدة التي اصيبت بها حملة منافسته بحليفها النيويوركي القوي الا انه قد يكون سعيداً في سره ويردد مضمون الحكمة العربية «من حفر حفرة لاخيه (الديموقراطي) وقع فيها».
لكن مهلاً..
من يضمن ان لا يكون في جعبة الاعلام الاميركي سهم مسموم يتهيأ للانطلاق نحو سمعة المرشح الشاب باراك اوباما في ليل من الليالي الفاصلة عن موعد التسمية او بالاحرى موقعة التسمية في المؤتمر الوطني للحزب الديموقراطي؟.
اما الجمهوريون وان تكن فضائحهم بجلاجل كما يعبر الاخوة المصريون، إلا انها تبقى فضائح «شرعية» من نوع الورطة العراقية التي سفكت من دماء الاميركيين والعراقيين ما تهون عنده ليلة حمراء في فندق «مايفلاور» ناهيك بتفاهة المقارنة بين مبلغ الاربعة آلاف دولار المسفوحة على مذبح نزوة شخصية عابرة و«مبلغ» الاربعة آلاف قتيل الذي سفحته الادارة الجمهورية خلال خمس سنوات من احتلالها للعراق. من يسأل بعد عن مئات المليارات، كلفة الحرب حتى الآن، والتي ارهقت كاهل الاقتصاد الاميركي؟
ومن يحلم بأن يقف الرئيس جورج دبليو بوش طالباً المغفرة من الاميركيين والعراقيين على هذا الفعل اللاأخلاقي، لكن خارج اطار الجنس!.
Leave a Reply