كشفت المعركة التي دارت مؤخراً بين بعض أصحاب المولدات الكهربائية في مدينة صيدا الجنوبية، عن وجود «ميليشيا مكهربة» تحمل السلاح، وتتنقل بين خطوط «التوتر العالي»، ما منحها القدرة على التحكم ليس فقط بمكامن الطاقة وإنما أيضاً بمصير الناس، حتى أصبحت سلطة أمر واقع، لها قوانينها وأعرافها التي يتوجب على من يخالفها أن يدفع الثمن.
والثمن هذه المرة كان باهظاً جداً وثقيل الوطأة. قتيلان وعدد من الجرحى وأضرار مادية بفعل خلاف على أفضلية «المرور الكهربائي» بين قطبين من رموز بيع الطاقة الخاصة (الاشتراكات) في المدينة التي لم تكن تعتقد يوماً بأن التيار سيصعقها بهذا الشكل الحاد، بعدما وصل التهور والتسيب إلى حد القتل المتعمد بدم بارد، دفاعاً عن استقلال «إمارة المولّد» في هذا الحي أو ذاك، ومنعاً لدخول أي منافس إلى نطاقها.
أثرياء المولدات!
الشراسة التي يظهرها أصحاب المولدات في الدفاع عن مصالحهم، حتى لو تطلّب ذلك استخدام جرعات من العنف، المادي أو المعنوي، إنما تعود إلى كون تجارة الكهرباء تدر أرباحاً طائلة على المستثمرين في هذا القطاع والذين راكموا المكاسب خلال السنوات الماضية بفعل مواصلة الدولة فرض التقنين المزمن في توزيع التيار، لدرجة أنه بات يصح أن يُطلق عليهم تسمية «أثرياء المُوتورات».
ويؤكد العارفون في هذا المجال أن الكثيرين من أصحاب المولدات باتوا يملكون الفيلات واليخوت والأرصدة الضخمة في البنوك، وبالتالي فإن هؤلاء أصبحوا مستعدين للتضحية بأغلى ما يملكون من أجل حماية هذه الثروة المستجدة التي بات مجموعها الإجمالي يقارب حوالي الملياري دولار.
وعليه، فإن ما حصل في عاصمة الجنوب يتعدى بكثير، حدود الإشكال الأمني العادي. إنه تعبير دموي عن ظاهرة مخيفة تتمثل في الصراع على النفوذ والمصالح بين «قبضايات المولدات» أو «أمراء الكهرباء» الذين يتقاسمون المربعات السكنية ومغانمها، على قاعدة ترسيم علني للحدود، من دون أي تردد أو خجل.
هذه هي الدويلة داخل الدولة. مراكز قوى، سطوة مسلحة، بلطجة، ضغط معنوي، منافسة غير شريفة، حكم ذاتي، و«وزراء ظل» للطاقة..
وأخطر ما في تلك الدويلة انها باتت أقوى من الدولة التي غضت الطرف طويلاً عن ظهور مؤشرات تكوين «مافيا الكهرباء»، بعدما وجدت أن هذا البديل الهجين يعوض عن بعض من القصور الرسمي في انتاج الطاقة وتوزيعها، لكن تلك المافيا ما لبثت أن تمددت وتجذرت مع الوقت، حتى غدت عصية على القانون في الكثير من الأماكن.
الأمن الاجتماعي
لقد أصبحت «امبراطورية المولدات» قنبلة موقوتة قابلة للانفجار عند أي «احتكاك كهربائي». وما جرى في صيدا يمكن أن يتكرر مثله أو أسوأ منه في أي مكان أو زمان، لأن الظروف مشابهة في المناطق الأخرى التي كانت قد عانت في السابق من حوادث متفرقة، وإن بعنف أقل نسبياً.
لقد ثبت الآن أن ثقاباً واحداً يكفي لإشعال النار في هذا الهشيم الأخلاقي، لأن المسألة ليست تقنية أو تجارية كما قد تبدو في الظاهر، بل هي تتصل قبل كل شيء بنمط السلوك العبثي الذي بات يستبيح كل المحرمات، مستقوياً بضعف السلطة الرسمية ومتمدداً في فراغها المتعدد الأبعاد.
إن صواعق المولدات الكهربائية باتت تهدد بضرب «الأمن الاجتماعي» في الصميم، شأنها شأن الفانات المتفلتة من الضوابط، والملاعب المفتقرة إلى الروح الرياضية، وتجارة المخدرات، وغير ذلك من الظواهر السيئة التي تنمو على ضفاف سلم أهلي هشّ، يتآكل من الداخل.
ومن حسن الحظ أن معركة «قبضايات المولدات» في صيدا جرت بين أبناء «الصف الواحد»، باعتبار أن طرفيها هما محسوبان على كل من الشيخ ماهر حمود والدكتور اسامة سعد المنتميين إلى فريق «8 آذار». ولكن، ماذا لو شاءت الأقدار أن يكونا مختلفين في الهوية السياسية أو الانتماء المذهبي؟ ومن كان يضمن حينها ألا تنزلق المواجهة المحلية نحو مستنقع الفتنة الآسن؟
ولعل التحدي الأصعب الذي ينتظر الدولة واللبنانيين في المستقبل يتعلق بكيفية حل «ميليشيات» المولدات الخاصة وهي التي أصبحت أكثر سطوة من الدولة والسياسيين، بفعل حجمها المنتفخ وشبكة المصالح التي تربطها بالنافذين على كل المستويات، علماً أن الاشتباك الصيداوي يؤشر إلى أن المهمة ستكون صعبة.
إنها كلفة تفكك المؤسسات، ويبدو أن أوان تسديدها قد اقترب.
Leave a Reply