إن الدنيا مناخات ومواسم وعصور. بعض المواسم والعصور تكون سخية، معطاءة، تنتج عباقرة وقادة عظاماً. أقوالاً وأفعالا، يولدون لذلك العصر والزمان، ينشأون في مناخه. أعمال وأفكار أولئك القادة العظام تحفر أسماءهم بشعاع من نور على صفحة التاريخ فتزيده تلؤلؤاً وإشراقاً، وتجعل الإنسان الذي عاصر وعاش في زمن ذلك القائد العظيم يشعر بالفخر والكرامة، ولا يخجل من الإنتماء لجيلٍ تأثر تأثراً إيجابياً ثرياً نحو حب الحياة، والسعي لجعلها أقل عناءاً وأخف حملاً. أحد هؤلاء القادة العظام، الكبار قولاً وفعلاً، الذي شاء لي العمر أن أعيش في زمانهم هو السيد موسى الصدر.
السيد موسى الصدر، هو من القلائل الذين أثروّا إيجابيا في حياة اللبنانيون عموماً، والطائفة الشيعية خصوصاً. ليس فقط على صعيد الدين وممارسته وتطبيق شعائره، بل في أسلوب الحياة والعيش، وتطبيق ذلك في الحياة اليومية، والممارسة الفعلية مع الأهل والجيران في الأرض والوطن، والسعي الدائب لتحسين تلك الصلة بين الناس في تعاملهم اليومي بزيادة جرعة المحبة والإحترام للآخر، مهما كان معتقد ذلك الآخر أو مبدأه في هذه الدنيا.
أواسط الستينات من القرن الماضي، عندما برز إسم السيد موسى الصدر كعالم دين من الطائفة الشيعية في جنوب لبنان، كان ذلك الجنوب عبارة عن قرى متعددة يجمعها الفقر والحرمان. لا كهرباء ولا ماء. لا طرقات ولا مدارس. وكنت أنا واحدة من ذلك الجيل الشاهد على فقر وتعب المزارعين وشقاؤهم وتعبهم طوال السنة، إنتظاراً لمردودٍ ضئيل، خصوصاً من مواسم زراعة التبغ، هذا عدا عن الآفات الزراعية والأساليب البدائية في الحياة وفي الفلاحة. كان يتحكم في رقاب الناس الجهل والبساطة والعادات والتقاليد المتوارثة جيل بعد آخر، وأساطير الجان والشاطر حسن وأبو زيد الهلالي، أبطال من الوهم والخرافة. كل ذلك كان يتحكم في تفكير الناس البسيط، في غياب الدوافع للتطور والتقدم نحو حياة أفضل. معظم تلك البلدات في جنوب لبنان، كان يعيش فيها مسيحيون ومسلمون. تقريباً كانت المعاناة اليومية والحياة الصعبة تشمل الجميع. ربما كان التعليم متاحاً أكثر للمسيحيين عبر إرسال أولادهم إلى المدارس في المدينة. أما نحن الشيعة، فكان يكفي أن يتعلم اولاد الزعماء القليلون يومذاك من الطائفة. أما أولاد الفلاحين والقرويين كان عليهم تعلم فضيلة الرضى والقناعة بالفقر والأمية، والمحظوظ من أولئك الأولاد من يستطيع أهله إرساله إلى الكتاب وفك الحرف العربي وقراءة بعض الآيات القرآنية.
منذ الأزل كان الفقر والجهل عدوّا الإنسان. ونتيجة للفقر والجهل، كان يحدث أحياناً صدامات بين المسلمين والمسيحيين في تلك القرى، يغذيها بعض الوجهاء المتنفذين المتحكمين في رقاب العباد الفقراء، فتزيد الهوّة بين الجيران في الضيعة أو القرية، لكن طيبة الناس، وبساطتهم كانت تتغلب في النهاية وأتذكر كيف كنا نعيش، إسلاماً ومسيحيون، نتقاسم الهم والتعب والقليل من الفرح.
أعود وأقول، إنه في منتصف الستينات من القرن الماضي، برزت عقائد وإيدلوجيات عديدة منها القومية والشيوعية والكتائب والمكتب الثاني. كنت أسمع تلك الأسماء يتحدث بها الرجال من مختلف الأعمار مع أبي. لم أكن أفهم شيئا منها، الذي أذكره أن الدين وممارسة شعائره كانت تتقلص أمام تمدّد تلك الحركات والعقائد. كان معظم قادة اليسار، أو الشيوعيون، من الشيعة من جنوب لبنان، تركوا الجنوب ونزحوا نحو المدن، محاولة للتغيير والإصلاح في الخلل في الميزان المعيشي في لبنان. لبنان الذي كان حقيقة لبنانان، لبنان الطبقة السياسية اللامعة المتناحرة فيما بينها على الحكم والنفوذ وإبراز لبنان كوطن سياحي حضاري في بضعة مناطق منه فقط. بجانب ذلك كان، هناك لبنان الآخر الذي يعيش في القرى النائية وينمو في أحياء الفقر والحرمان وبيوت الصفيح في ضواحي المدن وخصوصاً بيروت، التي كانت تكبر بلا تمهل ولا تأمل وبلا حساب.
في هذا العصر والمناخ، برز إسم السيد موسى الصدر، كزعيم ديني، ليس للطائفة الشيعية فقط بل في الشرق الأوسط، داعياً إلى المحبة والعقل، رافضاً مبدأ التخلف والأمية والركض خلفا نحو التخلي عن القيم الدينية واللحاق نحو القيم المادية العقيمة. كانت شخصية الإمام موسى الصدر تتميز بعفوية هادئة من الصدق والطيبة والحزم والإلتزام. الإلتزام الخلقي والديني ليس في خدمة طائفته فقط بل ومساعدتها على التخلص من الفقر والجهل والأساطير التي تتحكم في حياة الناس البسيطة. لم يكتف الإمام بالوعظ الديني فقط، بل هذبه وشبه ونفض عنه تلك الخرافات والتعاويذ التي تخدّر الإنسان وتجعله عبداً للخمول والكسل وشلّ قدرته عن التغيير والتفكير للمستقبل. كان لا يكتفي بالتنظير وإلقاء الخطب والمحاضرات. بل سعى لتطبيقها بين الناس من جميع الطوائف، أقنع الجميع بأن الدين هو المعاملة. ولا يؤمن الإنسان إلا إذا أحب لأخيه الإنسان ما يحبه لنفسه. كانت تتجلى قدرته على الحب وبناء صروح الصداقة المتينة والراسخة في زمن عزت فيه الصداقات، وغارت ينابيع الحب والعطاء وكانت العلاقة بين الإنسان وأخيه، في معظم الأحيان، مقتصرة على تبادل المصالح والخدمات وفي أحيان كثيرة تبادل التهم والأكاذيب.
باشر السيد موسى بفتح المدارس واستوعب جيلاً من الفتيان والفتيات، لم يقتصر على التعليم الديني في تلك المدارس فقط، بل كان هناك التعليم المهني والعلمي. بث فيهم روح المحبة والإخلاص للوطن بكل مذاهبه وطوائفه. أحب الإمام موسى الصدر أن يتحرر النظام الطائفي في لبنان وجعله نظاماً ديمقراطياً يعتمد على الكفاءات والمهارات، لذلك سعى إلى بناء جيل يقدر قيمة العلم والعمل، وتشجيعهم على إيجاد السعادة في العطاء وخدمة الآخرين والسعي الدؤوب للقضاء على التخلف، ونبذ التعصب والمشاعر العنصرية، داعياً إلى تفاعل وتكامل الأديان لأنها من مصدر واحد، ويجب أن تصب في نهر واحد يشرب الجميع من ماءه، ماء المحبة والتكافل الإجتماعي، في مواجهة الآفات الإجتماعية والفساد والإلحاد، وشد أواصر الأخوة بين المواطنين من مختلف الطوائف.
كانت تجربة الإمام موسى الصدر الرائدة في بث روح التعليم للأجيال الصاعدة، والكلمة والموعظة البسيطة النافذة إلى أعماق البسطاء والفقراء من الطائفة الشيعية. كانت تجربة شجاعة من رجل شجاع يأبى العوم على أمجاد الماضي، وخطابات الزعماء التقليديين الذين يعيشون في القصور والرفاهية ولا يعلمون مدى هموم الناس ومعاناتهم اليومية في مواجهة الفقر وشظف العيش وتلك الأفكار والمعتقدات التي لا تمت للدين الصحيح بصلة. لذلك كانت علاقة الناس بالسيد موسى الصدر، علاقة تواصل وتفاعل. لم يكن إنساناً مناضلاً صلباً وعنيداً أمام الظلم والجبروت فقط، كان إنساناً رقيقاً راقياً، نزل إلى الشارع والتقى بالناس، عاش معهم وأكل من طعامهم، شاركهم فرحهم وحزنهم، استمع لأفكارهم وأحلامهم وجعلهم يحبون بعضهم بعضا رافضا أن يتميز أحد عن الآخر إلا بالعطاء والمحبة لوطنه، للبنان. شرح بأسلوبه البسيط أن الدين هو طريق وسلوك الإستقامة الأخلاقية، والأديان كلها واحدة في البدء والهدف والمصير. وقد سعى لهدم حاجز التخلف والمعتقدات الخاطئة بين المسلمين والمسيحيين الذين كانوا يعيشون في بيئة ومجتمع واحد. بدأ بنفسه وزار معظم الكنائس وألقى خطباً تدعو للتآلف والمحبة الأخوية وإحترام المعتقدات.
كان بعض الغلاة من المسلمين قلما يشربون فنجان قهوة في بيت مسيحي، البعض من أولئك المسلمين «بالإسم فقط» كان يأنف من الدخول لأية كنيسة للمشاركة في مناسبات الفرح والحزن للمسيحيين، والبعض من المسلمين كان لا يتقبل دخول رجل مسيحي إلى حرم المسجد أو الجامع، بحجة الطهارة وعادات سخيفة كانت تتحكم في عقولهم ومعتقداتهم، وكأن ناموس الطهارة، وجد للمسلمين دون الآخرين. السيد موسى الصدر بحلمه وعلمه ويقينه، وتطبيقه للدين الصحيح المنفتح القابل للآخرين مهما كان دينهم ومعتقدهم، كسر ذلك الحاجز الواهي بين المسيحيين المسلمين بدخوله بيوت المسيحيين، وكنائسهم والأكل والشرب على موائدهم. الجميع يتذكر أن السيد موسى الصدر دعا المصلين جميعاً بعد الإنتهاء من صلاة يوم الجمعة لتناول البوظة (الآيس كريم) عند أحد الباعة، بعدما اشتكى ذلك البائع المسكين للسيد موسى الصدر إحجام المسلمين عن شراء البوظة من محله لأنه مسيحي. كذلك، عندما تعرضت القاع، وهي قرية مسيحية في منطقة شيعية، للقصف أثناء الحرب في لبنان، توجه الإمام إلى تلك البلدة ومكث فيها حتى رد القصف عنها. كان يحث على التعايش الإسلامي المسيحي، ويؤمن أن هذا التعايش هو ثروة الوطن لبنان ويجب التمسك بها والحفاظ عليها في مواجهة إسرائيل، الدولة الصهيونية العنصرية، عدو لبنان الأوحد.
بعزيمة وإصرار، كان الإمام موسى الصدر يضع الأساس لبناء جيل من الشباب والشابات للبناء وليس للهدم. بناء وطن متحضّر يبنيه مواطنوه بسواعدهم وعقولهم ويدافعون عنه بأرواحهم. جنوب لبنان الآن رغم كل ما تعرّض له من مآسي وحروب، قد نما وازدهر وتطهر من دنس الإحتلال الصهيوني بفضل رجالٍ صدقوا ما عاهدوا الله به، وبفضل جيل تربى على تعاليم المحبة والصدق وحب الحياة وإحترام وحب الآخرين وحب الوطن من السيد موسى الصدر وللآن ما زالت مدارس ومؤسسات الصدر الخيرية في لبنان، تقوم برعاية وخدمة العديد من المحتاجين من جميع الطوائف بدون تمييز. كان الإمام يبني جيلاً للحياة رغم الفقر وقلة الموارد. وفي الخليج العربي الغني، كانوا وما زالوا ينشئون جيلاً متعصباً تكفيرياً، مسلحاً بالتخلف والسلفية لهدم كل ما هو جميل ومختلف عنهم في هذه الحياة. ومن له بصيرة فلينظر حوله ويرى ويعقل.
التاريخ لا يصنع القادة، بل القادة هم من يصنعون التاريخ.
الإمام موسى الصدر قائد عظيم من وطن عظيم إسمه لبنان!
Leave a Reply