فسيفساء سياسية وصراع أيديولوجيات متناقضة
تعيش البلاد التونسية منذ ثورة 14″ يناير” على وقع التحضير لإنتخابات المجلس التأسيسي، التي ستقام هذا الأحد 23 تشرين الأول (أكتوبر) 2011، والتي يأمل التونسيون منها أن تنقل البلاد من وضعية مؤقتة إلى وضع أكثر إستقراراً ووضوحاً.
فمنذ فرار الدكتاتور زين العابدين بن علي بعد 23 سنة من الحكم العضوض، أصبح القائمون على تسيير دواليب الدولة التونسية بعد هروبه يديرون الشأن العام بالتوافق وعبر أجهزة وشخصيات مؤقتة، فرئيس الدولة مؤقّت، وحكومته مؤقتة، والمجلس الإستشاري الذي تكّون بالتوافق بين مختلف الطيف السياسي لحماية الثورة تحت إسم الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والإنتقال الديمقراطي، والتي يرأسها الشخصية المستقلة أستاذ القانون عياض بن عاشور، هي الأخرى مؤقتة، وكثير من الهيئات الدستورية الأخرى مرفوضة شعبيا لكون تركيبة هيئاتها من عناصر تابعة لنظام الرئيس المخلوع.
كل هذه المعطيات جعلت الوضع في البلاد هشا وغير مستقر أمنيا وإقتصاديا، زاده الطين بلّة الحرب التي إستعرت بليبيا على طول الحدود الشرقية التونسية، ممّا ضاعف الأزمة الأمنية والإقتصادية بدخول السلاح وعودة العمال التونسيين بليبيا هربا من أتون الحرب كما تدفق حوالي 800 ألف من اللاجئين من ليبيا. هذا إلى جانب سعي قوى “الردة” من بقايا النظام والتي مازالت نافذة في كثير من المواقع لزعزعة الأمن وبث البلبلة في محاولة للالتفاف على الثورة التي لم يشتد عودها بعد.
كل هذه المعطيات وغيرها يجرنا إلى تساؤلات عدّة، عن الجهات التي جهّزت لهذا الاستحقاق الإنتخابي وعن مهامها ومرجعياتها، وعن الدور الذي ستلعبه الحكومة الحالية في سير العملية الإنتخابية، وعن ماهية المجلس التأسيسي وأهداف إنشائه وصلاحياته ومدة نشاطه، عن الأحزاب المشاركة في الإنتخابات وعن أحجامها وبرامجها والعوامل التي قد تساهم في نجاحها أو فشلها…
كان الحديث يجري بعد الثورة عن الإنتخابات المرتقبة أو المفروض أن تقام لإنتخاب غرفتي البرلمان ومجلس المستشارين، اللتين مثلتا مصدرا لتمرير بن علي لكل قوانينه الجائرة.
وتحت ضغط الشارع والنخب السياسية لإحداث هيئة ما تكون ضامنا لنزاهة أيّ عملية إنتخابية مرتقبة بعيدا عن التلاعب وتزوير إرادة الناخبين، قام رئيس الجمهورية المؤقت فؤاد المبزع، وبإقتراح من الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والإنتقال الديمقراطي، بإصدار مرسوم مؤرخ في 18 نيسان (أبريل) الماضي يقضي بإستحداث الهيئة العليا المستقلة للإنتخابات لتشرف وتراقب وتسهر على شفافية ونزاهة إنتخابات المجلس التأسيسي الذي أصدر رئيس الجمهورية المؤقت مرسوما بإنشائه في 10 أيار (مايو) الماضي، ومن مهامه سنّ دستور جديد للبلاد وتعيين رئيس دولة وحكومة والدعوة إلى إنتخابات عامّة جديدة.
لكن رغم كل القوانين والمراسيم لم يقع تحديد فترة حكم هذا المجلس التأسيسي، فكان ذلك سببا في تعميق الخلافات بين الأحزاب، حيث دعا البعض إلى أن تكون مدّته سنة واحدة، كما دعا البعض الآخر إلى إستفتاء الشعب في ذلك، إلاّ أنّ الأمور لم تحسم وتُرك الأمر لأعضاء المجلس التأسيسي الذين سيُنتخبون ليحددوا مدّة إستمراره.
ولكي تكون للهيئة العليا المستقلة للإنتخابات الإستقلالية المالية والإدارية خصّصت لها الدولة إعتمادات مالية قدرها 50 مليون دينار أي حوالي 40 مليون دولار وستخضع عملياتها المالية إلى رقابة دائرة المحاسبات.
وقد عملت الهيئة العليا للإنتخابات، التي يرأسها الناشط الحقوقي كمال الجندوبي، على توفير كل الظروف البشرية واللوجستية لسير الإنتخابات في أحسن الظروف، وقد بلغ عدد مكاتب الإقتراع 7213 مكتبا في أنحاء البلاد التونسية و479 مكتبا في الدوائر الإنتخابية العشر خارج البلاد. وقامت الهيئة بالتنسيق مع قوى الجيش والحرس والأمن الداخلي لتأمين مراكز الإقتراع والمقترعين. كما سيتم نشر 50 ألف موظّف في مراكز الإقتراع للسهر على الإنتخابات التي ستكون تحت أنظار 6912 مراقب تونسي و533 من المراقبين الأجانب. هذا وقد بلغ عدد الذين سيدلون بأصواتهم هذا الأحد، 23 الجاري، في إنتخابات المجلس التأسيسي 7,3 ملايين تونسي لإختيار 217 عضوا من بين 857 قائمة حزبية، 575 مستقلة و52 إئتلافية وبهذا يمثّل المستقلون 40 بالمئة من مجموع القوائم.
ويبدأ المغتربون التونسيون خارج الوطن عملية التصويت لمدة ثلاثة أيام، في 20 و21 و22 الجاري لإنتخاب 19 عضوا من بين 217 عضوا الذين سيمثلون الشعب التونسي في المجلس التأسيسي القادم.
كل الأمور تبدو على ما يرام: إلتزام الإدارة الحياد، جاهزية لوجستية، وإستنفار أمني، لكن السؤال المطروح هل يكفي هذا لتكون إنتخابات المجلس آمنة، حرة ونزيهة؟ ماذا إذا عن دور اللاعببين الأساسيين ألا وهم الأحزاب وقواعدها ومنخرطيها؟
لا يجب أن ينخدع القارئ للخارطة السياسية التونسية التي تكوّنت بعد ثورة “14 يناير” بالعدد الكبير من الأحزاب، حوالي 115 حزباً، والتي أخذت تأشيرات العمل القانوني لتدخل معركة إنتخابات المجلس التأسيسي القادم. فليس بالضرورة أن تكون هذه التخمة الحزبية ظاهرة صحية أو مُؤشر لوعي سياسي أو دلالة على تحوّلات ديمقراطية، بل قد تكون مبنية على نيّة مبيّتة لتشتيت الرأي العام أو قد تكون مجرد عملية تنفيس لسنوات الكبت السياسي التي مارسها نظام بن علي. إذ لا يمكن لأي متابع للمشهد السياسي التونسي الحالي أن يُكوّن من خلاله حكما قطعيا حول إتجاهات العملية السياسية الجارية بالبلاد وعن خفاياها وتفاصيلها، كما لا يمكن القيام بعملية ترجيح بين كفّة وأخرى، إلا بعد إدراك كل العوامل المؤثرة الأخرى والتي من الممكن أن تلعب دورا هامّا في ترجيح كفة حزب أو احزاب دون غيرها.
فعوامل مثل الرصيد النضالي والمرجعية الفكرية والإيديولوجية وعوامل الجغرافيا كالجهويات والمال السياسي سواء الوطني أو الخارجي كلّها عوامل قد تساعد في حسم المعركة الإنتخابية لصالح طرف دون آخر. ولمزيد من فهم كلّ هذه التجاذبات والتقاطعات والتعقيدات التي تعيشها الساحة السياسية في تونس، كان لابدّ من الرجوع كذلك إلى الوراء والغوص في تاريخ الأحزاب التونسية قبل ثورة “14 يناير”، فالذاكرة الشعبية لاتزال تختزن وتتذكّر أحداث كبرى من الملاحم ومن الخيبات والمآسي مثّلت مفاصل هامّة من تاريخ البلاد التونسية.
فقد كان للأحزاب، سواء المعترف بها أو غير المعترف بها حكوميا، والتي كانت تُكوّن المشهد السياسي التونسي، أدوارا ومواقفا لا تمحى من الذاكرة لسنوات الجمر التي مرت بها البلاد. ذاكرة إختزنت تاريخا من الفعل السياسي قد يخرج من قُمقُمه فيرفع بعضهم عاليا وينزل بالبعض الآخر. لذلك ليست كل عملية إنتخابية هي دائما صراع برامج أو افكار لهذا من الممكن أن يصوّت كثير من الناخبين لفائدة الأحزاب النضالية التي عارضت الطاغية بن علي، كنوع من الرفض للأحزاب التي كانت موالية لآل بن علي، والمعروفة لدى أغلب المعارضين للنظام البائد بـ”الأحزاب الكرتونية” والتي لم تكن لها قواعد وتمثيلية حقيقية داخل الشعب لكنها مثّلت غطاءً إعلامياً للنظام السابق ولماكينته القمعية، وتحالفت معه حين كان يفبرك ويزور الإنتخابات ليمُنّ عليها بمقاعد ويجعل منها مجرد ديكور في برلمان شكلي.
أحزاب كرتونية
ورغم الأعذار التي ساقها رموز تلك الأحزاب بعد الثورة فإنّ أغلب الناس ظلّوا رافضين لها ولا يستبعد لأحزاب مثل الحزب الديمقراطي الوحدوي، وحركة الديمقراطيين الإشتراكيين، والحزب الليبيرالى للتقدم، وحركة التجديد أن تفشل في حصد مقاعد في المجلس التأسيسي وذلك بسبب عزوف أغلبية شرائح الشعب التونسي عنها لأنّه يعتبرها شريكا لنظام بن علي، وأحد روافد التجمع الدستوري المنحل. وقد أيقنت تلك الأحزاب بذلك فحاول بعضها الدخول في تكتلات مع أحزاب أخرى مثل “حركة التجديد” التي دخلت في تكتّل “القطب الحداثي”. أما البعض الآخر فقد حاول تارةً فتح الباب لضم قواعد الحزب الحاكم المنحل بقرار قضائي والممنوعة رموزه من المشاركة في الحياة السياسية، وطوراً في إستعمال المال السياسي التي تحاول بعض مراكز المال والإقتصاد الداخلية والخارجية والتي كانت مستفيدة من فساد النظام على إغداقه على بعض الأحزاب لتحافظ على مصالحها وليكون لها موقع قدم في النظام الجديد.
أحزاب مرخصة في عهد بن علي
حافظت على مصداقيتها
رغم أنّ المعارضة وكل المتضررين من النظام القديم، وهم السواد الأعظم من الشعب التونسي، يعتبرون أنّه لا يمكن لبن علي أن يسمح لحزب بالنشاط السياسي إلاّ إذا كان مواليا له وهو الغالب، فقد شذّ عن القاعدة بعض الأحزاب التي كانت قانونية في عهد بن علي والتي رغم أنها تمتّعت بتأشيرة النظام السابق، فيحسب لها أنها لم تتواطئ معه وحافظت على إستقلالها بل كانت لها مواقف مشرّفة وعانت من تضييق النظام عليها. نذكر هنا حزب “التكتّل من اجل العمل والحريات” الذي يرأسه الدكتور مصطفى بن جعفر، و”الحزب الديمقراطي التقدمي” الذي تتزعمه مي الجريبي وأحمد نجيب الشابي، وهو تجمّع يساري أنشا سنة 1983 تحت إسم “التجمع الإشتراكي التقدمي” الذي تعرض أعضاؤه للسجن والتوقيف مراراً، وفي 12 أيلول (سبتمبر) 1988 تحصّل على التأشيرة، وفي200٢ غيّر إسمه إلى “الديمقراطي التقدمي” حيث تحوّل من الأولوية الإيديولوجية إلى السياسية بقبول الآخر ضمن مبدأ التعدد.
وفي تجربة مشابهة إستطاع “التكتّل” الذي أسّسه الدكتور مصطفى بن جعفر في 1994 وحصل على التأشيرة القانونية سنة 2002 أن يحافظ على نوع من الإستقلالية في عهد يصعب فيه ذلك، لذلك إستطاع الحزب أن يتحوّل بعد الثورة من حزب صغير إلى حزب مهم ،بعد أن عدّل أوتاره وأصبح أكثر ليبرالية. وحسب أغلب المراقبين يرجح أن يفوز الحزبان بمقاعد في المجلس التأسيسي مع أفضلية نسبية للحزب الديمقراطي التقدمي مما سيمكّن الحزبان من القدرة على المشاركة في رسم مستقبل الحياة السياسية في تونس خاصة، وأن لهما علاقات دافئة مع أحزاب أساسية في المشهد السياسي كـ”حركة النهضة”، ولهم امتداد داخل بعض المثقفين والكوادر ورجال الأعمال. ويعتبر الحزبان من يسار الوسط.
حزب آخر، قد يمثل مفاجأة في إنتخابات المجلس التأسيسي، هو “حزب العمال الشيوعي”، الذي تحصل على التأشيرة بعد ثورة “14 يناير”، فهذا الحزب له إمتدادات في صفوف مثقفي اقصى اليسار والطلبة، وقد يستفيد من تخفيض سن الإنتخاب إلى 18 سنة، لإمتداده داخل صفوف تلاميذ المعاهد الثانوية، والفضل يرجع إلى كاريزما ونضال أمينه العام حمّه الهمامي، الذي عُرف بوقوفه مرات عديدية ضد نظام بن علي وظل مطارداً لكنه لم يرفع الراية البيضاء هذا الحزب قد يحقق نسبة مقبولة من مقاعد المجلس القادم.
أما حزب “المؤتمر من أجل الجمهورية” والذي أسسه الدكتور منصف المرزوقي، مع مجموعة من رفاقه سنة 2001، فله قواعده وإمتدادات في الجنوب التونسي خصوصا، وله قواعد في بعض ولايات الجمهورية وقد عانى المرزوقي السجن والتضييق ثم انتقل الى فرنسا ليواصل نظاله ضد النظام، حصل على تأشيرة العمل القانوني بعد ثورة “14 يناير”، ويعتبر من أحزاب الوسط، إلا أنّ سنوات الغربة التي قضاها زعيمه بفرنسا أضعفت من إنتشاره خاصة لدى الجيل الجديد. وللحزب حظوظ في الفوز بمقاعد في المجلس بنسب تقارب أو تقل عن نسب التجمع الديمقراطي التقدمي وحزب التكتل وحزب العمال.
حركة النهضة
ومن الأحزاب التي يجمع كثير من المتابعين للشأن السياسي التونسي أنها ستحقق ربّما أفضل النتائج خلال إنتخابات أعضاء المجلس التأسيسي هي “حركة النهضة” ويذهب البعض إلى أنها ستحقق بين 10 إلى 15 بالمئة من مقاعد المجلس الوطني التأسيسي القادم.
وقد تأسست الحركة سنة 1981 تحت إسم الإتجاه الاسلامي ثم حاولت أن تدخل الحياة السياسية، لكنها كانت تفشل كل مرة رغم تغيير إسمها، فلا نظام بورقيبة، ولا بن علي، قبلوا بقواعد اللعبة السياسية، بل قاموا بملاحقة كوادر وقواعد “النهضة” وسجنوا وعذبوا كثير منهم وقضى رئيس الحركة الشيخ راشد الغنوشي 20 عاما في المنفى ببريطانيا. وإضافة إلى رصيدها النضالي فقد إكتسبت الحركة عطفا نتيجة سنوات البطش التي مارسها نظام بن علي ضدها وضد غيرها من الحركات الوطنية.
وتمتد قواعد “النهضة” داخل الجامعات والمعاهد التعليمية وبين المثقفين وداخل مدن الجمهورية. وقد تأسست الحركة كردة فعل على سياسة سلخ الهوية العربية الإسلامية في عهد بورقيبة إقتداءا بالأتاتوركية، حيث حول بن علي ثقافة البلاد إلى مجرد فلكلور متحفي.
التيار القومي العربي
ضمن الخارطة السياسية، يظل التيار القومي العربي حركة عميقة في وجدان التونسيين. لكن الواقع التونسي الحالي والذي قامت فيه الثورة على أيدي شباب لا أيديولوجية ولا زعامات لهم، هدفهم الكرامة والشغل داخل الوطن، قد لا ينجذبون إلى شعارات وأطروحات تتجاوز الواقع القطري التونسي. ويبدو ان التيار القومي، الممثل في “حركة الشعب الوحدوية التقدمية”، قد أدرك ذلك وحاول التركيز في حملاته الإنتخابية على تاريخ نضالات المرحوم صالح بن يوسف، وهو أحد زعامات التيار العروبي داخل “حزب الدستور” ومن المتأثرين بعبد الناصر في عهد الإستعمار الفرنسي. وبهذا حاول التيار الوحدوي القومي عربي في تونس أن يعطي الحزب بعدا محليا لتقريبه أكثر من الشباب التونسي ورغم ذلك لا يبدو أن للقوميين حظا في تحقيق نسبة مقاعد في المجلس التأسيسي تجعلهم يلعبون دورا في كتابة دستور الجمهورية الثانية.
القوائم المستقلة
ولا يستبعد أن تلعب عوامل أخرى فتأتي المفاجأة من القوائم المستقلة خاصّة وهي تمثل 40 بالمئة من جملة القوائم المتقدمة لإنتخابات المجلس التأسيسي، وهي قائمات غير معروف من يقف ورائها على الحقيقة فمن قائل انها تمثل رغبة الناس في تجاوز انتهازية الاحزاب السياسية إلى قائل أنها تابعة لفلول النظام السابق وبعضهم يذهب الى أنها واجهة لحكومة الظل التي تسيّر البلاد من وراء الستار.
يبدو المشهد السياسي التونسي صعب ومعقّد لكنه في كل الأحوال سيمثّل منعطفا تاريخيا ليس في تاريخ البلاد التونسية فقط بل في تاريخ المنطقة العربية برمتها، فاذا نجحت هذه التجربة وأفرزت نظاما ديمقراطيا فستكون بكورة خير تتلوها دول أخرى. أما إذا فشلت، لاقدّر الله، فستُلقى بظلالها على مجمل مستقبل المنطقة العربية.
باحث جامعي تونسي
Leave a Reply