بيروت – كمال ذبيان
سلكت إنتخابات رئاسة الجمهورية في لبنان، طريقها الدستوري، وعليها أن تجتاز الحواجز السياسية، والمحاور الإقليمية والدولية، وإلتزم رئيس مجلس النواب نبيه برّي، بالمادة 73 من الدستور، ودعا الى جلسة إنتخاب، بالموعد المحدد، شهر على الأقل، أو شهرين على الأكثر من موعد إنتهاء ولاية رئيس الجمهورية، وهو لم يخالف مرة المواعيد الدستورية في دورات سابقة، ولبّى معنوياً رغبة البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي، لعقد جلسة لإنتخاب رئيس جديد، إذ ترى بكركي في شغور رئاسة الجمهورية وإحداث فراغ في سدّتها، هو ضرب للديمقراطية، وممارسة النواب لأبسط حقوقهم الدستورية، وحق الشعب عليهم لأنهم يمثلونه، في أن يحصل الإستحقاق الرئاسي، بصورة دستورية، وطبيعية، ومنافسة ديمقراطية.
واتّضحت صورة المواقف من هذا الإستحقاق، بعد إعلان رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع ترشحه وإذاعة برنامجه الرئاسي، مخالفاً الدستور الذي لا ينص على أن يتقدّم المرشح لا بترشيحه المسبق ولا ببرنامجه، لأن النظام هو برلماني وليس رئاسي، أي أن النواب ينتخبون رئيس الجمهورية بجلسة سرية، وقد يعلن أي مرشح ترشحه في أثناء العملية الإنتخابية، في الدورة الأولى أو الثانية، وغير ملزم ببرنامج رئاسي، لأن السلطة التنفيذية ليست منوطة برئيس الجمهورية بل بمجلس الوزراء مجتمعاً، وأن الإنتخابات لا تتم من الشعب، بل ممَن يمثّله من النواب، ولكن هذا لا يمنع أن يعبر المرشّح عن إرائه وأفكاره وطروحاته ويسعى الى تطبيقها، وأن ما يعول عليه هو خطاب القسم الذي من خلاله يعلن رئيس الجمهورية المنتخب أمام مجلس النواب والرأي العام رؤيته للحكم، التي سيعمل على إرسائها من خلال مجلس الوزراء، والتعاون بين السلطات كما نصّ الدستور الذي عليه أن يسهر على حسن تطبيقه، وهذه مهمة أساسية وصلاحية كبيرة تقع على رئيس الجمهورية الذي هو رمز البلاد والحَكَم، ويضعه موقعه على مسافة واحدة من الجميع، وهذا ما أكّد عليه الدستور لجهة المرجعية التي يعود إليها اللبنانيون، وعدم تحوّل منصب رئاسة الجمهورية كطرف سياسي أو طائفي وفئوي، وعندما تحوّلت الى هذا التوصيف انفجرت الأزمات في لبنان.
ولأن رئيس الجمهورية هو رأس السلطات، والحَكَم، فإن المرشح التوافقي كان دائماً الأكثر حظاً في الوصول الى القصر الجمهوري، وعندما كان ينتخب رئيس تحدٍّ أو فئوي، كانت الأوضاع الدستورية والسياسية والأمنية تهتز، وتزداد تعقيداً عندما يدخل رئيس الجمهورية في المحاصصة الوزارية والإدارية، ويتحوّل الى طرف وفريق، ويصبح الوضع خطيراً عندما يبدأ بالبحث عن التمديد له، واسترضاء جهات خارجية، أو الإلتحاق بفئات داخلية، فيخلق الإنقسام حوله وينتهي عهده الى أزمة أو ثورة أو حرب أهلية.
وفي هذه الدورة من الإنتخابات الرئاسية، فإن ترشيح سمير جعجع، الذي فاجأ حلفاءه في «14 آذار» وحشرهم، وسبق الآخرين من المرشحين ليقدم نفسه واحداً أحداً لا شريك له، في أن يكون مرشح «14 آذار» الوحيد، وهو ما حصل عليه بإمتعاض من فريقه السياسي الذي أيّده لاسيما «تيار المستقبل» للحفاظ على وحدة قوى «14 آذار»، ولخوض إنتخابات الدورة الأولى به، لأنه لن يفوز بها ولا بغيرها، حتى لو بلغ عددها المئة، فإن جعجع لن يؤمن أكثرية الثلثين من أصوات مجلس النواب له (86 نائباً) للفوز بالدورة الأولى، وهذا ما حصل في جلسة الانتخابات التي حضرها 124 نائباً، بغياب النواب سعد الحريري وعقاب صقر وخالد الضاهر بداعي السفر والنائب إيلي عون «لأسباب صحية».
وقد نال جعجع 48 صوتاً فقط، وهو رقم هزيل وتأكيد على انه مرشح الدورة الأولى بالرغم من اصراره على أنه مستمر بالترشيح ولكنه لن يتمكّن من الحصول على الأكثرية المطلقة من النواب في الدورة الثانية (65 نائباً) وما يليها، لأنه غير مرغوب به سياسياً من قوى «8 آذار» التي واجهته بالورقة البيضاء وبأسماء شهداء سقطوا بمجازره ومنهم طوني فرنجية وعائلته وداني شمعون وعائلته في بعبدا واغتيال الرئيس رشيد كرامي، ولا من «جبهة النضال الوطني» التي يترأسها النائب وليد جنبلاط، الذي رشح النائب هنري حلو وحاز على 16 صوتاً ولا من شخصيات وتيارات في «14 آذار»، بما فيها «تيار المستقبل»، الذي لا يماشي جعجع في طروحاته كموضوع «حزب الله» وسلاحه، لجهة معالجة وجوده ودوره، وإن كان يلاقيه في الشعار الرئيسي، لكنه يختلف معه في الأداء والأسلوب، وهذا ما ظهر في مسألة تشكيل الحكومة، كما في قانون الإنتخاب، وفي قضايا أخرى، كانت المواقف والآراء متباعدة، إذ يرى «المستقبل» بجعجع حليفاً سياسياً، ويرفضه رئيساً للجمهورية، لذلك هو أيّده مرشحاً، ولا يريده في قصر بعبدا، وصوّت له في الدورة الأولى، وسيمتنع في الدورة الثانية، لأن مسألة فوزه ليست بعهدته، بل بعهدة الكتل النيابية الأخرى، إذ ليس بوارد أن ينتخبه النائب وليد جنبلاط الذي رشّح عضو «جبهة النضال الوطني» النائب هنري حلو، في رسالة رمزية بأنه يريد مرشّحاً على هذه الصورة (وسطياً)، ينتخب بالتوافق، ويدير أزمة في ظل التطورات العربية والإقليمية والدولية، وإن أقصى ما يمكن أن يتفق عليه اللبنانيون هو إنتخاب رئيس جمهورية، يقرّب بينهم، ولا يشكّل نقطة خلاف حوله، لاسيما في ما قد يطرحه من أفكار ومشاريع صدامية، كما هو حال جعجع الذي وتحت غطاء حصرية السلاح بيد الدولة التي يضعها بوجه «الدويلة»، فإن ما يقدّمه هو دعوة للحرب الأهلية، لأنه سيضع أولوية نزع سلاح المقاومة في عهده، لإعادة بناء الدولة، وترجمة ذلك سياسياً وأمنياً وعسكرياً، هي بإستحضار معركة عسكرية مع «حزب الله» الذي يرى جعجع أنها ضرورية لقيام الدولة، ومن دون هذا الممر الإجباري والدموي والمكلف، لا يمكن برأي جعجع وبرنامجه، أن تقوم قيامة لدولة وأمن واستقرار واقتصاد إلخ…
فما يطرحه جعجع لن يوصله الى رئاسة الجمهورية، وأن حلفاءه في «14 آذار»، وإن كانوا يؤيدون برنامجه، لكنهم في الواقع يعلمون وبالتجربة والممارسة، أن نزع سلاح «حزب الله» هو من المستحيلات، وتمّ التعايش معه في مرحلة التسعينات وبحكومات ترأسها رفيق الحريري الذي كان يقوم بمشروع الإعمار والإنماء، في وقت كانت المقاومة تستكمل التحرير في الجنوب، دون أن يمنع ذلك من إعادة بناء الدولة ومؤسساتها، وتحقيق نمو اقتصادي، وحصول حركة عمران، واستعادة دور لبنان، وهو ما يسقط أفكار جعجع وحلفائه عن المقاومة وربط نزع سلاحها بإقامة الدولة.
فطروحات رئيس «القوات اللبنانية»، تمنع حصول إنتخابات رئاسة الجمهورية في الدورات اللاحقة، لا بل هو يعطلها إذا ما استمرّ على موقفه من أنه مرشّح كل الدورات في وقت رفض العماد ميشال عون الترشّح بوجه جعجع، بل قدّم نفسه مرشّحاً وفاقياً أو توافقياً، فإذا لم يحصل له ذلك يفتح الباب للبحث عن بديل، وهو يعلم أن ترشح جعجع لقطع الطريق عليه للوصول إلى القصر الجمهوري، وهذا ما حصل مع تأييد كتلة «المستقبل» النيابية لجعجع، ولم يعد وارداً أن يحظى عون بتأييدها له، ليفرض البحث عن مرشّح توافقي غيره.
فالجلسة الأولى للإنتخاب، حظيت بالنصاب القانوني، لكن لم يخرج منها رئيس للجمهورية، وهي ستعطي ورقة لـ«تيار المستقبل» للتفاوض على مرشّح التسوية، بعد أن يكون ترشيح جعجع قد مرّ بأصوات قليلة جداً، ولعب جنبلاط لعبته بترشيح حلو، واقترعت قوى «8 آذار» بورقة بيضاء، فينتقل البحث عن مرشحي الدورة الثانية التي سيلعب برّي وجنبلاط لعبتهما فيها ويشاركهما الرئيس سعد الحريري حيث تتقدّم أسماء جان عبيد، دميانوس قطار، زياد بارود من خارج موظفي الفئة الأولى، ليعاد طرح إسم قائد الجيش العماد جان قهوجي، وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة.
أما إذا لم يتم الإتفاق على إسم مرشّح مقبول من «8» و«14 آذار»، فإن الإنتخابات الرئاسية قد لا تحصل في موعدها الدستوري، وقد ترجأ لمدة قد تطول الى أيلول (سبتمبر) المقبل كحد أقصى، لتمرير إستحقاقات إنتخابات الرئاسة في مصر في 28 أيار (مايو) وفي سوريا في 3 حزيران (يونيو)، ومعرفة مصير الإتفاق بين إيران والدول الست حول برنامجها النووي السلمي في تموز المقبل، الى ما يجري في أوكرانيا واستعادة لمناخ الحرب الباردة.
وخلال هذه المرحلة الإنتقالية، المرتبطة بالتطورات الإقليمية والدولية، فإن لبنان قد يدخل الى شغور في منصب رئيس الجمهورية وفراغ في رأس الدولة، لتتولى الحكومة صلاحيات رئاسة الجمهورية، ريثما يتحقق الوفاق الداخلي، الذي عليه لبننة الإستحقاق الرئاسي، مع الدعوات الخارجية لإنجازه.
Leave a Reply