مع تشكيل الحكومة، فإن إستحقاق إنتخابات رئاسة الجمهورية، هو ما ستحضّر له خلال المئة يوم من عمرها، وأن التوافق الداخلي على ولادتها ووجود الأطراف السياسية الأساسية فيها، فتح الباب أمام حوار حول هذا الإستحقاق الذي ولجه كل من «التيار الوطني الحر» و«تيار المستقبل» عبر لقاء جمع رئيسيهما العماد ميشال عون والرئيس سعد الحريري، حيث اتفقا على أن لا فراغ في رئاسة الجمهورية، وأن تجري إنتخاباتها في موعدها الدستوري.
فالخروج من نفق الحكومة الذي دام عشرة أشهر ونيّف بصيغة سياسية جامعة، وضع الجميع مباشرة أمام البحث عن مخرج توافقي لإنتخاب رئيس للجمهورية، يكون هذه المرة صناعة لبنانية، بعد أن كان في كل الدورات السابقة منذ الإستقلال، هو نتاج قرار دولي وإقليمي، وقد يكون الإستثناء الوحيد هو إنتخاب الرئيس سليمان فرنجية في العام 1970.
فرؤساء الجمهورية كانوا ينتخبون وفق المصالح الخارجية للدول وتأثيرها في لبنان، وهذا ما حصل في إنتخابات رئاسة الجمهورية عام 1943، إذ جاء بشارة الخوري مع تقدم النفوذ البريطاني على حساب الإنتداب الفرنسي، والصراع الذي احتدم بين الطرفين، فأيّد البريطانيون الخوري وأوصلوه الى رئاسة الجمهورية، وأزاحوا إميل إده المدعوم من الفرنسيين الذين كانت ردة فعلهم على سقوط رجلهم، هو إعتقال رئيس الجمهورية وأعضاء من الحكومة في راشيا، فردّ اللبنانيون بالتظاهرات والصدامات مع القوات الفرنسية التي رضخت وأطلقت سراح رئيس الجمهورية والمسؤولين ونال لبنان إستقلاله.
ولم يختلف مشهد الإنتخابات الرئاسية فيما بعد عما حصل في العام 1943، إذ تخلى الإنكليز عن الخوري الذي جدّد رئاسته في العام 1949، ويقدّم استقالته في العام 1952 تحت ضغط العصيان المدني الذي قادته «الجبهة الإشتراكية الوطنية» لينتخب أحد أعضائها كميل شمعون برضى بريطاني وموافقة سورية في عهد الرئيس أديب الشيشكلي، وقد انتهى عهده بـ«ثورة دموية» في العام 1958 عندما ألحق لبنان بـ«حلف بغداد» ومشروع الرئيس الأميركي دوايت إيزنهاور لمحاربة الشيوعية، والوقوف بوجه المد الوحدوي العربي الذي كان يقوده الرئيس جمال عبد الناصر، حيث كان شمعون يسعى الى التجديد لرئاسته، لكن توافقاً أميركياً-مصرياً أخرجه من القصر الجمهوري بإتفاق عبد الناصر-ريتشارد مورفي (المبعوث الأميركي)، ليأتي مكانه قائد الجيش فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية، الذي رفض التجديد له في العام 1964 بالرغم من توفر الظروف الداخلية والخارجية له، ليستمر العهد الشهابي الذي كان يديره ضباط المكتب الثاني (المخابرات) عبر الرئيس شارك حلو، لينتهي النظام الأمني وما كان يسمى بحكم النهج «الشهابية» ويسقط مرشحه حاكم مصرف لبنان إلياس سركيس في مواجهة الرئيس سليمان فرنجية الذي أتى به تكتل الوسط الذي ضم صائب سلام وكامل الأسعد وفرنجية، في ظل إنقسام سياسي بين «الحلف الثلاثي» الذي ضمّ أقطاب الموارنة كميل شمعون وبيار الجميّل وريمون إده من جهة، وبين النهج الشهابي، الذي عاد مرشحه ليفوز في إنتخابات عام 1976، مع إندلاع الحرب الأهلية، وكان مدعوماً من سوريا والولايات المتحدة الأميركية وبغطاء عربي، أمّن دخول قوات الردع العربية الى لبنان لإيقاف الحرب لمن ذلك الجهد لم يصمد سوى عام ونصف العام، ليدخل العدو الإسرائيلي على خط الأزمة اللبنانية بعد احتلاله للشريط الحدودي جنوب الليطاني في العام 1978. وعزز تحالفه مع «الجبهة اللبنانية» التي استفادت من عقد معاهدة صلح بين النظام المصري برئاسة أنور السادات والكيان الصهيوني، لتبدأ مرحلة الحرب على الوجود الفلسطيني والسوري، في الأشرفية والفياضية وزحلة وصنين والشمال وتصفية حلفاء سوريا بقتل الوزير والنائب السابق طوني سليمان فرنجية وعائلته، بعد اعتراض الرئيس فرنجية على تعامل «الجبهة اللبنانية» مع العدو الإسرائيلي الذي اجتاح لبنان في العام 1982، ونصّب بشير الجميّل رئيساً للجمهورية الذي اغتيل لتعاونه مع الإحتلال الإسرائيلي للبنان ليخلفه شقيقه أمين الجميّل الذي وافق على توقيع إتفاق مع الكيان الصهيوني عُرف بـ«17 أيار»، ليواجه برفض وطني وعمليات للمقاومة ضد الإحتلال الإسرائيلي الذي بدأ إنسحابه من بيروت الى الضواحي والجبل، ليختل التوازن الداخلي لصالح القوى الوطنية التي فرضت إلغاء المعاهدة اللبنانية مع العدو الإسرائيلي، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، لم يستفد منها الجميّل، بل مضى في السياسة الفئوية، لينتهي عهده بفراغ في رئاسة الجمهورية، ملأته حكومة عسكرية برئاسة العماد ميشال عون رفض المشاركة فيها الضباط المسلمون لينقسم لبنان بين حكومتين أولى دستورية برئاسة عون والثانية دستورية تحوّلت الى واقعية برئاسة سليم الحص، ولم ينتهِ هذا الإنقسام إلا بعد التسوية التي تمّت في إتفاق الطائف برعاية عربية وتأييد دولي، أنهى الحرب الأهلية، وأعاد العمل بالمؤسسات الدستورية بإنتخاب رينيه معوض رئيساً للجمهورية الذي اغتيل بعد أيام، لينتخب مكانه إلياس الهراوي، وكان القرار سورياً دون اعتراض أميركي وعربي، وفرضت دمشق نفسها اللاعب الأساسي في لبنان الذي ساعدته على بناء مؤسساته وتحقيق السلم الأهلي فيه، فمدّدت للهراوي الذي خلفه قائد الجيش العماد إميل لحود الذي انتهى عهده الممدد له بفراغ في رئاسة الجمهورية بسبب الخلافات الداخلية الحادة بين 8 و14 آذار وحصول صدامات بينهما كادت أن تتحول الى حرب أهلية مع أحداث 7 أيار 2008، وشعور «حزب الله» أنه مستهدف كمقاومة منذ الحرب الإسرائيلية في العام 2006، فكان إتفاق الدوحة الذي خلق هدنة داخلية بين الأطراف سمحت بإنتخاب قائد الجيش ميشال سليمان رئيساً للجمهورية الذي سماه رئيس الإستخبارات المصرية عمر سليمان للأميركيين وبموافقة فرنسا وعدم ممانعة سوريا وإيران ورضى السعودية ودول الخليج.
ومع قرب إنتهاء ولاية الرئيس سليمان في 25 أيار المقبل، وبدء العد العكسي لإستحقاق إنتخابات رئاسة الجمهورية في 25 آذار، فإن البحث الجدي افتتح حوله، وأن الإنفتاح بين تياري «المستقبل» و«الوطني الحر»، يدخل في هذا الإطار إذ سعى العماد عون مع الرئيس الحريري على إنتاج معادلة إنتخاب المرشح الماروني القوي الذي يمثل في مجتمعه، ليتعاون مع الممثل القوي في الطائفة السّنّيّة ليكون رئيساً للحكومة، وهي معادلة عمل عليها عون منذ العام 2005 عندما طرح صيغة حكم بشارة الخوري ورياض الصلح بعد الإستقلال عام 1943، وحاول تكرارها مع الحريري لكنه فشل، بعد إستبعاده عن التحالف الرباعي وحاول عزل «التيار العوني» الذي نجح في توقيع ورقة تفاهم عام 2006 مع «حزب الله»، الذي ساعده أن يكون ممثل المسيحيين الأقوى في كل الحكومات.
ويحاول العماد عون أن يؤمن تأييد الكتل النيابية له، وهو مدّ خطوط التواصل معها، وقدّم مبادرة سياسية لإنقاذ الوضع الداخلي، وأن لقاءه مع الحريري وتواصله مع النائب وليد جنبلاط، وانفتاحه على السعودية عبر سفيرها علي عواضّ العسيري من أجل تأمين مناخ إيجابي لصالحه يساعده على الوصول الى رئاسة الجمهورية، لكن تواجهه عقبات، تتعلق بأن الحريري ملتزم بمرشح من «14 آذار» ولا يريد فرط هذا التحالف، كما أن الرئيس نبيه برّي لا يؤيد وصول عون الى بعبدا لأن تجربة العلاقة معه تبقى دائماً متوترة وعلى خلافات شبه دائمة، ويؤيّده بذلك النائب وليد جنبلاط الذي يرغب بمرشح لا يمثل تحدياً لأحد، ويريده على صورته الوسطية في هذه المرحلة التي تشهد إنقساماً سياسياً حاداً، وقد استطاع أن يأتي برئيسين للحكومة هما نجيب ميقاتي وتمام سلام لا يمثلان استفزازاً، وهو اتفق مع الرئيس برّي على أن يكون رئيس الجمهورية توافقياً، ومن خارج المؤسسة العسكرية باستبعاد قائد الجيش العماد جان قهوجي الذي إذا انتخب سيكون القائد الثالث الذي ينتخب على التوالي رئيساً للجمهورية من المؤسسة العسكرية، وهوما يرفضه رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي الذي لا يستسيغ وصول عسكري الى الرئاسة الأولى في وقت يتقدم اسم حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بين المرشحين وله حظوظ للوصول الى رئاسة لبنان.
فالمرشحون لرئاسة الجمهورية لا يتعدون العشرة، إذ تبرز أسماء الأقوياء وفي مقدمتهم: ميشال عون، سمير جعجع، سليمان فرنجية، وأمين الجميّل، وأن هؤلاء يمثلون بيئتهم المسيحية، لكن يواجه كل منهم «فيتو» بسبب إنتمائهم السياسي الى فريقي «8» و«14 آذار»، وهو ما ينطبق على النائب بطرس حرب وعلى النائب روبير غانم الذي يبقى الأقل تطرفاً من الآخرين، وهذا ما يسهّل تقدم أسماء وسطيين حيث يبرز اسم النائب السابق جان عبيد الذي اقتربت منه رئاسة الجمهورية أكثر من مرة ثم ابتعدت عنه لظروف داخلية وخارجية.
ومن الأسماء المتداولة تبرز أسماء زياد بارود، جوزف طربيه، الأمير حارث شهاب، لكن حظوظهم متدنية، إلا إذا ما حصلت في الساعات الأخيرة التي تسبق الاستحقاق الرئاسي، مفاجآت وهي دائماً موجودة في إنتخابات رئاسة الجمهورية إذ يولد رئيس للجمهورية في الربع الساعة الأخير.
وابتعدت بكركي عن طرح أسماء أو تقديم لائحة بهم، لأن البطريرك الراعي لن يدخل هذه اللعبة التي أوقعوا فيها سلفه البطريرك صفير لتقديم أسماء ولم يأخذوا بها، بل جاء القرار من الخارج، وأن اللقاء الذي جمع الحريري بالراعي لم يتم التطرق فيه الى الأسماء، بل الى ضرورة حصول إنتخابات رئاسة الجمهورية في موعدها الدستوري، وهو ما تشدّد عليه البطريركية المارونية المدعومة من الفاتيكان، برفض حصول فراغ في رئاسة الجمهورية وما تعني للوجود المسيحي في لبنان خصوصاً والشرق عموماً في ظل تنامي الأصوليات الدينية التكفيرية والمتطرفة.
فإستحقاق رئاسة الجمهورية يتقدّم على ما عداه، وأن الكرة هي في ملعب اللبنانيين لإمتحان قدرتهم على حصوله في موعده، مع وجود قرار دولي-إقليمي بضرورة المحافظة على تداول السلطة وشرعية المؤسسات الدستورية، ومنها رئاسة الجمهورية، مما يمنع حصول التمديد للرئيس سليمان الذي تراجعت حظوظه بالرغم من إبقائه قيد التداول في بعض مراكز القرار، كإحتمال يعوّض عن الفراغ في حال عدم حصول الإنتخابات التي تقدم إجراؤها مع التوافق على تشكيل الحكومة التي هي من أحد أهداف مَن وافق على صيغتها.
Leave a Reply